الجزائر | استهل الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند يومه الثاني من زيارته إلى الجزائر بوقفتين رمزيتين؛ الأولى في ساحة «موريس اودان»، المناضل الشيوعي الذي عذبته حتى الموت، وحدة الموت التابعة لفرقة سلاح المظليين الفرنسية عام 1957، بسبب انخراطه في صفوف الثورة. أما الوقفة الثانية فكانت في «مقام الشهيد» على مرتفعات مدينة الجزائر العاصمة.
في المحطة الأولى، وقف هولاند والوفد الكبير المرافق مع حشد من المسؤولين الجزائريين في المكان القريب من الجامعة المركزية، التي كان موريس يشتغل بها أستاذاً للرياضيات، إجلالاً لهذا المناضل الذي صارت قضيته رمزاً لوحشية التعذيب الذي مارسه الفرنسيون في الجزائر. أما في المحطة الثانية فقد وضع هولاند اكليلاً من الزهور على النصب التذكاري المُخلّد لشهداء حرب استقلال الجزائر 1954 ـ 1962.
بعدها مباشرة انتقل الرئيس الفرنسي ومن معه الى قصر المؤتمرات في نادي الصنوبر في الضاحية الغربية لمدينة الجزائر، وألقى خطاباً أمام البرلمان الذي اجتمع بغرفتية بحضور يزيد عن 600 نائب، إضافة الى أعضاء الحكومة وكبار المسؤولين المدنيين والعسكريين.
وفي خضم خطاب جريء حاول لمس المشاعر المشتركة للجزائريين والفرنسيين، تحدث هولاند عن التعذيب الذي مارسه جنود الاحتلال، وهي أول مرة ينطق فيها رئيس فرنسي بمثل هذا الكلام، واصفاً النظام الاستعماري بالجائر. وقال إنه «خلال 132 سنة (1830-1962) خضعت الجزائر لنظام ظالم ووحشي... وهذا النظام يحمل اسماً هو الاستعمار».
وذهب الرئيس الاشتراكي إلى أبعد من ذلك حين تلفظ بعبارة الاعتراف، وهي أول مرة يفعلها رئيس فرنسي حين يتعلق الأمر بالحديث عن الحقبة الاستعمارية في الجزائر، قائلاً: «أعترف في هذا المقام بالمعاناة التي سلّطها النظام الاستعماري الفرنسي على الشعب الجزائري. ومن ضمن هذه المعاناة، مجازر سطيف وقالمة وخراطة التي تبقى راسخة في ذاكرة الجزائريين». ويقصد مجازر الثامن من أيار 1945 التي قُتل فيها أكثر من 45 ألف جزائري خلال أيام.
ودعا الرئيس الفرنسي الى التعاون في ما يخص الكشف عن خبايا الذاكرة الأليمة بين الشعبين والبلدين وأعطى ما يشبه الضمانات بفتح الأرشيف الفرنسي السري للمؤرخين حتى يتمكنوا من الوقوف على الحقائق كما جرت في الواقع.
ورأى هولاند أن البحث في هذا هو من أجل «سلامة الذاكرة، وفي كل الأحوال ومهما كانت الجراح، تبقى هناك علاقة متميزة بين الجزائريين والفرنسيين». وواصل الرئيس الفرنسي مداعبته مشاعر الجزائريين حين قال سأتوجه هذا المساء الى تلمسان «مدينة مصالي الحاج، أحد مؤسسي النزعة الوطنية الجزائرية». وهي ايضاً اول مرة يشيد فيها رئيس فرنسي بهذا الزعيم التاريخي الذي كان أول من دعا إلى الاستقلال الكامل عن فرنسا منذ الثلاثينيات من القرن الماضي، وأسس أول نواة لتحضير الكفاح المسلح.
أمام كلمة الرئيس الذي يمثل الاستعمار التاريخي بالنسبة لبلد المليون شهيد، وقف نواب البرلمان وباقي الحضور عدة مرات مصفّقين مهللين، معبرين عن رضاهم. وانقسمت الطبقة السياسية الجزائرية تجاه الموقف من الخطاب، حيث رأت قيادات الأحزاب المندمجة في الحكومة أن هولاند ألقى خطاباً غير مسبوق كونه اعترف بجرائم النظام الاستعماري بما في ذلك التعذيب.
وقال وزير المجاهدين (قدماء حرب الاستقلال)، شريف عباس، الذي يطالب دائماً باريس بالاعتذار من الجزائريين، إن الخطاب «يقترب من الاعتراف الكامل بجرائم الحقبة الاستعمارية، وهو ما لم يكن متاحاً ابداً مع الرؤساء السابقين». ووصفه بأنه «خطاب متفائل وتصريح جيد».
أما وزير الخارجية مراد مدلسي، فوصف الخطاب بالشامل الذي «لم يغفل لا الماضي ولا الحاضر ولا المستقبل». وأوضح أن «هولاند ابرز في خطابه ثقافة السلم واحترام الاخر، وهما مبدأين اساسيين لبلادنا ودبلوماسيتها ولا يمكن الا ان نجد انفسنا في في هذه المبادئ وتطبيقها في الميدان»
وفي المقابل، أدانت الأحزاب الاسلامية تقاعس الطرف الفرنسي عن تقديم اعتذار صريح للجزائريين. بينما تجاهلته قوى سياسية ومجتمعية واسعة كون الرئيس الفرنسي جاء لدعم مواقف النظام وسطوته، ولتحقيق أغراض اقتصادية لبلده، وهو في كل الاحوال لا يفيد عامة الجزائريين في شيء.
واعتبر رئيس اللجنة الوطنية للدفاع عن الذاكرة، الأخضر بن سعيد، زيارة هولاند والمواقف التي جاءت في سياقها «لا حدث». وقال «ان كل ما قاله منذ مجيئه لا يفي بالغرض كونه حرص على إرضاء الفرنسيين قبل الجزائريين ورفض علناً تقديم الاعتذار عن الجرائم. وأضاف أن «الاعتراف لا يعني الاعتذار. وموقفه عموماً ليس بعيداً عن موقف من سبقه».
ويرى كثير من السياسيين، بينهم نواب في البرلمان وقيادات حزبية، أن هولاند لم يكن يخاطب الجزائريين فقط بل كان يأخذ في الحسبان رد فعل المجتمع الفرنسي والطبقة السياسية الفرنسية، لذلك كان حذراً حتى في اختيار الألفاظ التي وظفها في خطابه.
ولئن كان موضوع التاريخ هو محور خطاب فرانسوا هولاند، ونال من الوقت حصة الأسد، فإن الجوانب الاقتصادية والثقافية والانسانية كانت حاضرة بقوة، حيث أكد هولاند استعداد بلاده لتطوير التعاون والعمل المشترك في كل المجالات. وأوضح أنه اتفق والرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة، على تعزيز التشاور والتواصل وإقامة المشاريع وترقية المبادلات بما يخدم البلدين. وتحدث حتى بلغة التكامل الاقتصادي، وهي أيضاً لغة جديدة في قاموس رؤساء فرنسا في التعامل مع الجزائر. كما طالب بأن «تفتح الجزائر أبوابها أكثر للفرنسيين الذين يريدون زيارتها».
يُذكر ان زيارة الدولة، التي قادت الرئيس الفرنسي الى الجزائر وانتهت مساء أمس، تُوّجت بتوقيع اتفاقيات وبروتوكولات تعاون في عدة قطاعات، منها الاقتصاد والتربية والثقافة بالاضافة الى اعلان الجزائر، حول الصداقة والتعاون بين البلدي.
وابرز ما سيميز المستقبل بين البلدين التوقيع على ستة اتفاقات تخص الدفاع والاقتصاد والتعليم، بالاضافة الى توقيع على اعلان «الصداقة والتعاون» بعد التخلي عن «معاهدة الصداقة» بسبب فشل المفاوضات حولها منذ 2003.