دمشق - المدفعية تضرب ليل نهار. غالباً تضرب المناطق نفسها التي يتمترس فيها مسلحو المعارضة. ينتهي الجيش السوري من قصفها ثم يعلنها مناطق آمنة خالية من المسلحين. أيام قليلة، ويعود السكان، وبعدهم بقليل يعود المسلحون، ما يستدعي أن تعود المدفعية أيضاً إلى العمل. فلا داعي للدهشة أمام هذا الخراب الهائل المخيّم على مناطق أُعلِنت سابقاً آمنة.
شوارع كاملة مدمّرة في منطقة حرستا، التي تشهد أعنف المعارك بين النظام والمعارضة المسلحة. مبانٍ متداعية، وأُخرى انهارت أساساتها، واللون الأسود يغطي كل شيء. هذا لا يكفي، فالحرب لم تنتهِ بعد. وحرستا لم تعلن منطقة آمنة، ولو لمرة واحدة حتى الآن، أسوةً بقدسيا وداريا اللتَين أصبحتا منكوبتَين بعد الأمان المعلَن عبر وسائل الإعلام السورية الرسمية. كيف يمكن إعمار كل هذا الخراب؟ يجيب أحمد، موظّف حكومي من حي الميدان، بأن «خلف المعارك الدائرة شركات عالمية تؤجّجها كلّما خفّت حدّتها، وتنتظر اللحظة المناسبة للبدء بعمليات الإعمار على حساب جيوب الشعب السوري».
خرجت ريم مع أطفالها من منطقة الحجر الأسود التي تدور فيها معارك طاحنة بين الجيش السوري وجبهة النصرة. تشرح المرأة عملية خروجها الخطرة من المنطقة إثر خطف زوجها، ولا سيّما بعد نزوح والدتها وشقيقها الأصغر إلى منزلها من بلدة الحصن في الساحل السوري، إثر مقتل والدها أيضاً تحت أنقاض منزل العائلة الريفي. العجوز النازحة إلى حيث تقيم ابنتها حاملة مآسيها بالكامل، رأت لدى الابنة مآسي إضافية، تتمثّل بإعالة الأطفال ومحاولة اقتفاء أي أثر لوالدهم المخطوف. تقول ريم: «إلى أين سأعود؟ وصلتني أخبار عن أن منزلي قد تهدّم. ولا أخبار عن زوجي. كلّ ما أستطيعه هو أن أبقى نازحة في هذه المدرسة مع أطفالي ووالدتي وشقيقي الذي اعتقلته القوى الأمنية من هُنا فترة ليست بالقصيرة». المدرسة، التي ترزح تحت جميع أشكال البؤس ضمن أراضي مخيم اليرموك للاجئين الفلسطينيين، تهدّدها القذائف الهاطلة كالمطر على المنطقة المحاصرة بالاشتباكات. وهي عرضة لعمليات الدهم الأمنية واعتقال الشبّان المشتبه فيهم فترة من الزمن، حتى الحصول على البراءة التي قد لا تثبت كما لا تثبت الإدانة. وأسوأ ما في الأمر سؤال يرن في آذان الجميع: إلى أين نعود؟
الاختلاط القائم اليوم بين النازحين من أهل الريف وسكان المدينة يرخي بظلاله على الحياة في دمشق وبقية المدن. ابن الريف الذي نسيَته الدولة ردحاً من الزمان، دون تقديم متطلبات الرفاهية التي تتوافر في المدينة، فنسي أبناؤها أن للريف مشاكله وفجائعه إلى أن جاءت الأزمة السورية.
الكثير من المناطق الساخنة في ريف دمشق تعاني سوء المخطط التنظيمي، أسوةً بمعظم أطراف المدن السورية وأريافها. فغالبية التظاهرات اندلعت داخل المدن في الأحياء الشعبية ومناطق السكن العشوائي. وبمجرد انتهاء الأحداث الأمنية، إن انتهت، ستكون الفرصة متاحة لإعادة الإعمار وفق مخططات تنظيمية جديدة توفّر تغييرات في ديموغرافيا هذه الأحياء. تغييرات لم تستطع الدولة إحداثها في أيام السلم. ففي اللاذقية مثلاً، ثار أبناء الريف منذ سنوات على خلفية ما شاع من أخبار عن استثمار رجال أعمال معروفين لكورنيش المدينة بهدف إنشاء مرافق سياحية، ومحاولة توطين أبناء المخيّم وما حوله من أهالي مناطق السكن العشوائي ضمن قرى الريف، وما نجم عن ذلك من قطع لعشرات أشجار الزيتون بغية إتمام هذا الأمر. وهو ما أثار حفيظة أهالي القرى، فاستبسلوا في الاعتراض على ذلك. إنما من يجرؤ اليوم على الاعتراض خلال هذه الظروف.
بيان، سيدة من حلب، استأجرت منزلاً في اللاذقية هاربةً من سعير الحرب في مدينتها الأصلية. بيان تؤكد أنها لن تعود يوماً إلى حلب بعدما رأت كمية الدمار الذي أُلحق بها، مقررةً أن اللاذقية ستكون مدينتها البديلة في ظل الأمان الذي تحياه فيها. وهو أمان لا تظنّه طويل الأمد، في ظلّ أخبار المعارك الدائرة في ريف المدينة الآمنة. فتعيش المرأة على الأمل بأن لا خسارات أكثر من سلسلة الهزائم التي عصفت بالحلبيين، الشعب الذي يعشق الفرح والحياة.
وفي منطقة المزة 86 بدمشق حمّل بعض الأهالي النازحين مسؤولية الانفجارات الأخيرة وقذائف الهاون التي نزلت على الحي. شكوك صبّها سكان الحي على هؤلاء على اعتبار أن هنالك من يعطي بيانات عن مبانٍ ونقاط محددة للاستهداف، محاولين التأثير لإخراج «الغرباء» من الحي خشية اختراقات إضافية تضعف أمان المنطقة وتغيّر في بنيتها السكّانية.
وبصرف النظر عن أسعار العقارات والإيجارات المرتفعة والمثيرة للهلع، لا يبدو أن من هجر منزله في المناطق المنكوبة سيعود إليه، في ظل الخوف على الأرواح ومناظر الدم والموت المنتشرة على طول البلاد وعرضها. إلا أن اختصاصية علم الاجتماع، إنصاف سليطين، تشرح الأمر بأن «العقل الجمعي لدى الذين هُجّروا من بيوتهم يجعلهم يشعرون بأن ما يمرون فيه هو عبارة عن مرحلة مؤقتة، فيعيشون تفاصيلها بكل ما قد تتضمنه من بؤس على أمل العودة إلى المناطق التي هُجّروا منها». وبحسب سليطين، يعيش هؤلاء حالة نكران للواقع؛ لأنهم لا يريدونه أو يتقبلونه، ولا سيما في ظل فقدانهم للأمان الذي يُعَدّ حاجة أساسية للإنسان وأهم مقومات استمراره، ما يشكل انعطافاً سلبياً مؤثراً على حياة الإنسان إن لم تُحتوَ هذه الحالات بالدعم والرعاية الكافية، بالتعاون مع كافة المؤسسات والمنظمات المجتمعية الرسمية منها والأهلية.
أما في بعض الحالات، فإن الاختصاصية الاجتماعية، توضح أن «هناك من النازحين من يعتمد محاولات حثيثة ضمن المكان الجديد على اعتبار أنهم أمام تحدٍّ وجودي يدفعهم إلى الاستمرار والعطاء مهما ساءت الظروف»، بينما في حالات أُخرى، أدت المواقف الصعبة التي تعرض لها أصحابها إلى فقدانهم الثقة، بحسب سليطين.
كل ما يمكن أن تراه في دمشق يدل على تغييرات جذرية في حياة المدينة، ولا شك في أن المتغيرات الآتية ستكون أكبر، على اعتبار أن التعايش في الحروب يأخذ أشكالاً جديدة، ويؤدي إلى تغييرات اجتماعية قائمة على قبول ما لم يكن مقبولاً قُبيل مراحل الأزمات.