قبل أيام في غزّة جرى "حفل" استتابة. يسعى كثيرون (حماس/الإخوان المسلمون/داعش/السلفيون/الوهابيون/السعوديون) لتحويل غزّة إلى إمارةٍ "دينية". لا يهم إن كانت سلفية، إخوانية، وهابية؛ المهم أن تتحول المنطقة الأكثر اكتظاظاً في العالم إلى "إمارةٍ" إسلامية، والسلام. في الوقت عينه يبذل العدو الصهيوني كل ما أوتي من قوة لتحويل القطاع إلى سجنٍ كبير لا أكثر ولا أقل؛ فيما "الأخ" المصري لا يزال يغلق الرئة الوحيدة لغزّة معبر رفح. فجع الفلسطينيون قبل غيرهم مما يحدث في غزّة، كان الفيديو الممتد على دقائق عشر تقريباً يحكي حادثة يبدو أنّها لا تحدث لأوّل مرّة؛ تبدو كما لو أنّها "معادة" غير مرة؛ حيث بقي "أبطال" الحدث في نطاق الكاميرا ولم يجفلوا أو يتأثروا أو يبدو عليهم استغراب من ير ما يحدث لمرةٍ أولى. باختصار؛ كان فيديو الاستتابة سوريالياً. وتقول الحكاية المدمجة مع الفيديو إنَّ هذه المشاهد هي مشاهد "استتابة" مجموعةٍ من الصبية كانوا قد أعلنوا كفرهم. طبعاً الفكرة قد تكون مقبولة لو أنَّ هؤلاء الشباب في لبنان مثلاً، أو على الأقل دبي، حيث هناك مناخٌ معينٌ من حرية يسمح لهم بأن يعلنوا توجهاتهم الفكرية (أو حتى الكفرية) لكن في غزّة؟ يعرف أي فلسطيني بسيط بأن طبيعة القطاع ومنذ ثلاثينيات القرن الماضي لا تسمح بأي حراكٍ يحارب الدين، فحتى الأحزاب العلمانية كالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين لم تكن "ترفع" شعاراتٍ "لادينية" من أي نوع في قطاع غزّة، فطبيعة الناس وفطرتهم دينية هادئة، وهو الأمر ذاته الذي مهّد لدخول حركة الإخوان المسلمين وتغلغلها (وهو الأمر الذي انسحب على قوّة حركة حماس في القطاع أكثر من غيره في المناطق الفلسطينية).
عموماً، ولأنه كان لا بد من شرح "الكذب" الذي يورده الفيديو، كان هؤلاء الفتية الذين لا يتجاوز اكبرهم السادسة عشرة من عمره يخرجون الواحد تلو الآخر، ثم يبدأ الشخص "الذي يصيح في المايكروفون" والذي يتحدث بكلامٍ من نوع أنه يحبهم ومستعدٌ أن يعطيهم عيونه، في مشهدٍ يذكرنا بحفلات الزار المصرية، حيث يبدأ المنشد بإلقاء كلماتٍ سرعان ما تدخل الناس في تلك "اللوثة" التي لا ترتبط بالدين أبداً.
طبعاً ولأن البكاء لا بد أن يكون "سمةً" فقد بكى الصبية، ولم يعرف أحدٌ على ماذا يبكون، أصلاً لم يعرف أحدٌ لماذا كفروا؟ هل كفروا مثلاً من حصارٍ جائرٍ يقيمه ممولو الجمعية مثلاً (الجمعية اسمها ابن باز وبالتأكيد يمكن تحديد من هم ممولوها من اسمها)؛ أم مثلاً من عدو غاصبٍ يقتلهم كلما سنحت له فرصة؟ أم من وضعٍ معيشي أكثر صعوبةٍ من الموت؟ أم قوانين جائرة تنفذها قوى الأمر الواقع؟ ما هو سبب كفرهم لم يبَن في هذا الفيديو، لأنّه أصلاً لا يعني لأصحاب الفيديو وناشريه إلا أن يظهروا أشخاصاً –لا يعرفهم أحد- يتوبون أمام "الوهابي" القادم حاملاً دينه الجديد ليفرضه على الناس، ويدخلهم في دينه –لا دين الله- أفواجاً.
أطفالٌ كثر كانوا يجلسون في تلك المدرسة – من شكلها تبدو مدرسة أو جمعية - كانوا متحلقين حول ما يحدث، والجميع – جميع الفلسطينيين- يعرفون تماماً كيف تعمل هذه الجمعيات: تأتي/تأخذ، أو لا تأتي/لا تأخذ. السؤال الأهم كان يجب أن يكون "ما كانت الرشوة آنذاك"؟ هل كانت عشاء جيداً؟ أم علاجاً طبياً؟ أم نفقاتٍ دراسية؟ أم فرصة عملٍ في الخارج؟ ألا تستحق كل تلك الأمور أن نجلس في مكانٍ كهذا أمام رجالٍ كاذبين كهؤلاء نمثّل عليهم كما يمثّلون علينا؟ لو كنتُ هناك لما كنتُ فعلت إلا ما فعله أولئك الصبية الجالسون، لربما كنت حتّى من بين أولئك الذين "استتابوا" كي أحصل على "منحةٍ" أكبر. فأن تكذب وأنت تعلم أنك تكذب على شخصٍ كاذب، هو قمةُ الذكاء.
يبيع هؤلاء المدعون الدجالون أطفالنا في غزّة لوهابي مختبئ في قصرٍ في السعودية، محاولين إرضاءه بفيديوهاتٍ من هذا النوع إظهاراً أن المال الذي يعطيه لهم لا يذهب "عبثاً" وبأنّهم ينفذون وصاياه مهما كانت "غريبةً" أو "قبيحة" وبأنّهم فوق هذا ليسوا "خائفين" من تهشيم عقول أطفالنا وأحبتنا، فهم في النهاية ليسوا أكثر من "عبيدٍ" ينفذون ما يريده صاحب الأمر.
باختصار، كان الفيديو قذراً، قبيحاً، لكنه للأسف كان حقيقياً، ويحدث؛ ولربما يحدث الآن، أو غداً. وحدها اليد المقاومة هي التي "ستقتص" من أولئك الدجالين في لحظةٍ ما، وكما "انقرض" شيخهم ذات يومٍ، سيرحلون.