لطالما مثّل انفصال جنوب السودان حلماً يراود بعض الجنوبيين منذ ما قبل تحقيق البلاد لاستقلالها عام 1956، في انعكاس لأزمة في التعايش بين الشمال والجنوب، نتيجة تضافر مجموعة من العوامل لا يمكن فصل جزء منها عن سياسات الاستعمار.
إلا أن تصاعد الأزمة الجنوبية وعجز مختلف الحكام، الذين تعاقبوا على حكم السودان، عن إيجاد حلول مرضية تأخذ في الاعتبار هواجس الجنوب، فضلاً عن حسابات نظام الرئيس السوداني عمر البشير كانت كفيلة بتحويل مطلب الانفصال إلى مطلب شبه إجماعي للجنوبيين، بعدما أقرت حق تقرير المصير من جهة وعجزت عن إقناع الجنوبيين بجاذبية استمرار الوحدة مع الشمال من جهةٍ ثانية.
ولا شك في أن الوصول إلى هذه المرحلة سبقتها سنوات من الفشل في بناء الثقة بين الشمال والجنوب. ففيما كان السودان يستعد للتخلص من الاستعمار البريطاني، كانت هواجس الجنوبيين من توجه الشمال للسيطرة عليهم تتصاعد، ما دفعهم إلى ربط موافقتهم على التخلي عن المطالبة ببقاء الإدارة الإنكليزية في الجنوب إلى حين تطوير الإقليم بإقامة حكومة فدرالية.
إلا أن الدعوة إلى الفدرالية التي تبناها رسمياً حزب الأحرار الجنوبي في تشرين الأول من عام 1954، جوبهت بمعارضة شديدة اللهجة من حكومة إسماعيل الأزهري، قبل أن تضطر الأخيرة إلى الموافقة على ضمان إمرار إعلان الاستقلال قبل أن تعود وتتغاضى عن وعودها للجنوبيين لتعزز من مخاوف أبناء الجنوب.
ووسط أجواء انعدام الثقة، تمردت أولى القوات الجنوبية في آب 1955 في مدينة توريت، حيث مثّل تمردها بداية حرب أهلية هي الأطول من نوعها في تاريخ أفريقيا، لا تزال البلاد تعيش فصولها حتى اليوم.
ومنذ أحداث توريت، اتبع حكام السودان سياسات متشددة في معالجتهم للتمرد في الجنوب، لم تكن تسهم إلا في تعميق الأزمة أو دفع المزيد من المتمردين للتوجه نحو الغابات أملاً في إجبار الشمال على أخذ هواجسهم في الاعتبار.
وكان لسياسات الفريق إبراهيم عبود، الذي استولى على السلطة في عام 1958، دور محوري في تأجيج مشاعر الغبن لدى الجنوبيين، ولا سيما بعد موافقته على استبدال عطلة الأحد في الجنوب بيوم الجمعة، ما أعطى دفعاً جديداً للنخبة الجنوببية المطالبة بتحقيق الجنوب لاستقلايته عن الشمال.
ووسط هذه الأجواء المشحونة بين حكومة عبود والجنوب، بعدما دخلت الحركات التبشيرية طرفاً في رفض قرار العطلة، اتخذ عبود قراراً إضافياً وضع بموجبه يده على المؤسسات الدينية المسيحية من خلال قانون تنظيم الهيئات التبشيرية، وطرد المبشرين المسيحيين من الأراضي السودانية. وزاد إصرار الجنوبيين على التمرد بعدما رفضت لجنة إعداد مسودة الدستور السوداني في عام 1958 الأخذ بالفدرالية.
وبالتزامن، كان نشاط المتمردين قد اشتد وبرزت حركة «أنانيا» منذ عام 1963. واستمر تصاعد القتال في الجنوب إلى أن أطاحت ثورة تشرين الأول 1964 الفريق عبود. وبعد الانقلاب عقد «مؤتمر المائدة المستطيلة» في آذار من عام 1965 على أمل إيجاد حل سلمي للجنوب. ومثّل المؤتمر فرصة للأحزاب الجنوبية للتعبير عن آرائها في وضع الجنوب. وبرز في ذلك الحين، الاتحاد الوطني الأفريقي السوداني «سانون»، وكان يتنازعه تياران. الأول جازم في قرار الدعوة إلى انفصال الشمال عن الجنوب، فيما التيار الثاني اقترح إجراء استفتاء لشعب جنوب السودان على 3 مسائل هي الفدرالية، الانفصال أو الوحدة لإنهاء مشكلة التمرد التي عاناها الجنوب بعدما أجل ساسة الشمال مراراً الاتفاق الذي جرى بين الشمال والجنوب.
ووسط التباين في الرؤى بين الأحزاب الجنوبية من جهة، والأحزاب الشمالية والجنوبية من جهة ثانية، بسبب رفض الشماليين بحث أي خيار خارج مبدأ الوحدة، انهار المؤتمر وتفاقمت الأمور مع دستور 1968 عندما ذهبت جهود الجنوبيين لإقرار دستور علماني يأخذ في الحسبان التنوع العرقي والثقافي والديني في البلاد أدراج الرياح.
نقطة تحول جديدة في تاريخ الأزمة الجنوبية سجلت مع «ثورة مايو»، في 25 أيار 1969 برئاسة جعفر النميري، الذي بدأ حكمه بمحاولة حل مشكلة الجنوب. وأصدر بيان «9 حزيران» معترفاً بالفوارق بين الشمال والجنوب، وأكد السعي إلى الحل من خلال توجهه لمنح الجنوبيين الحكم الذاتي. كذلك عرض برنامجاً من أربع نقاط تضمنت العفو عن الجنوبيين في الخارج، في إشارة إلى المتمردين الذين التجأوا إلى دول الجوار، تنفيذ برامج محددة للتنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية للجنوب، تعيين وزير لشؤون الجنوب، وتنفيذ برامج لتدريب الجنوبيين بما يضمن اندماجهم.
قرابة ثلاث سنوات مرت قبل أن تثمر المفاوضات بين نظام النميري، وحركة «أنانيا»، باعتبارها القوة العسكرية والسياسة الأساسية في الجنوب بقيادة جوزيف لاقو، على توقيع اتفاقية «اديس أبابا» في 27 شباط 1972.
واستطاعت الاتفاقية أن تضع حداً مؤقتاً للحرب التي مضى على اندلاعها في حينه 17 عاماً، بعدما أقرت بمنح الجنوب حكماً ذاتياً كفله في ما بعد دستور 1973. كذلك وقّع الطرفان مسودة هيكل تنظيم الحكم الذاتي الإقليمي في الجنوب إلى جانب مسودة وقف إطلاق النار ومجموعة من البروتوكولات تختص بتنظيمات مؤقتة في الإدارة والشؤون العسكرية والقضائية وإعادة توطين اللاجئين.
ونجحت الاتفاقية في إيقاف الحرب لمدة عقد من الزمن، ما عدا بعض الخروق لحركات متمردة جنوبية، واستطاعت تطوير مفهوم اللامركزية الإدارية في الجنوب، إلى أن قرر النميري في أيار 1983 ضرب عرض الحائط بالاتفاقية وإعادة تقسيم الجنوب إلى ثلاثة أقاليم (الاستوائية وأعالي النيل وبحر الغزال)، مخالفاً بذلك المادة الـ34 من نص اتفاقية «أديس أبابا» التي قضت بإلغاء القانون أو تعديله من خلال موافقة ثلاثة أرباع أعضاء مجلس الشعب القومي وموافقة ثلثي مواطني الجنوب.
واتخذ النميري في 8 أيلول 1983 قراراً آخر قضى بتطبيق الشريعة الإسلامية في مختلف أنحاء البلاد، لتعود البلاد من جديد إلى أتون الحرب الأهلية.
في هذه الأثناء، تغيرت موازين القوى داخل الحركات المتمردة في الجنوب. وبعدما كانت حركة «أنانيا» صاحبة الكلمة العليا، جاء دور «الحركة الشعبية لتحرير السودان»، بقيادة جون قرنق لتتولى قيادة عمليات التمرد في الجنوب.
كذلك تغيرت الأهداف المعلنة للتمرد، إذ إن الحركة الشعبية لم تعد تحصر المشكلة في الجنوب فقط، بل نادت بضرورة معالجة جميع مشاكل البلاد سواء في الشمال أو الجنوب. ولم تستطع السنوات الثلاث الأولى التي أعقبت إطاحة نظام النميري في نيسان 1985، أن تعيد المتمردين إلى طاولة المفاوضات، ولا سيما أن الحركة استطاعت في تلك الفترة أن تحقق عدداً من الإنجازات العسكرية على حساب الجيش المنهك والمهمل بفعل الأوضاع السياسية في الشمال.
إلا أن اختراقاً جديداً تحقق في تشرين الثاني من عام 1988 بموافقة الحركة الشعبية على اتفاقية السلام السودانية في أديس أبابا أيضاً بين قرنق وزعيم الحزب الاتحادي الديموقراطي، عثمان الميرغني. ونصت الاتفاقية على وقف إطلاق النار، فضلاً عن عقد مؤتمر قومي دستوري لمناقشة قضايا السودان؛ من شكل الحكم واقتسام السلطة والثروة وتجميد تطبيق الشريعة الأسلامية.
وبعد فشل الميرغني في إقناع رئيس الحكومة الصادق المهدي وشركائه الإسلاميين بتبني الاتفاقية، اتخذ قراراً بالانسحاب من الحكومة اعتراضاً على إفشال مبادرته. أشهر مرت قبل أن تضطر الحكومة الجديدة، على وقع تدهور حالة الجيش والهزائم المتكررة في الجنوب، للموافقة على تبني ما جاء في الاتفاقية وإعلانها تجميد قوانين الشريعة الإسلامية. وبينما كانت الحكومة تستعد لتوقيع دستور جديد يتضمن إلغاء قوانين الشريعة الإسلامية، أطاح انقلاب جديد الصادق المهدي.
وتكرر السيناريو الذي تشهده البلاد مع كل انقلاب، إذ احتلت القضية الجنوبية الأولوية في خطاب حكومة الإنقاذ قبل أن يُعقَد أول لقاء بين ممثلين عن الحكومة والحركة الشعبية في 19 آب 1989 في اديس أبابا. لقاء كان مصيره الفشل، الذي انسحب كذلك على «مؤتمر الحوار الوطني حول قضايا السودان» الذي نظمته حكومة الإنقاذ في 9 أيلول وسط تغيب متعمد لممثلي الحركة الشعبية.
وبعد انهيار وقف إطلاق النار، نشط الرئيس الأميركي السابق، جيمي كارتر، في وساطة جديدة بين الطرفين أفضت إلى انعقاد جولة ثانية من محادثات السلام في نيروبي في كانون الأول، فيما كان طرفا الصراع يخوضان معارك ضارية أملاً في تحقيق انتصارات عسكرية تستخدم كورقة في المفاوضات السياسية التي فشلت من جديد.
ومع فشل المفاوضات، صعّد الجيش السوداني هجومه على الحركة الشعبية، مدعوماً بتأسيس قوات الدفاع الشعبي، ما سمح للجيش بتحقيق عدد من الانتصارات تزامنت مع خسارة الحركة للدعم الإثيوبي نتيجة سقوط النظام في أديس أبابا برئاسة منغستو هيلا ماريام، ما مهد الطريق أمام انشقاقات داخل الحركة لم تفوت الحكومة السودانية فرصة الاستفادة منها، إلا أن تداعياتها كانت السبب الرئيسي في تحويل مطالب الجنوبيين بالانفصال إلى أمر واقع.
فالحكومة السودانية كانت تتحين الفرصة للالتفاف على الحركة الشعبية لتحرير السودان بقيادة قرنق، الذي يتبنى خيار عدم فصل الشمال عن الجنوب. وسارعت إلى إجراء مفاوضات مع الحركة الشعبية ـــــ جناح ناصر، الذي يقوده لام أكول ورياك مشار، ذي التوجهات الانفصالية الواضحة في حينه، أفضت إلى اتفاق فرانكفورت في كانون الثاني 1992. والاتفاق على الرغم من تنصل الحكومة السوانية منه خلال فترة وجيزة، بعدما أجبرت على العودة إلى التفاوض مع الحركة الشعبية بقيادة قرنق، تكمن أهميته في أنه منح للمرة الأولى حق إجراء استفتاء على تقرير مصير جنوب السودان. وباتت تقرير المصير حقاً مكرساً، وتحول العنوان الرئيسي للوساطات المتتالية، ولا سيما بعد تبنيه من تحالف المعارضة السودانية في عام 1995 من خلال «إعلان أسمرا».
ولم تجد الحكومة ضمن استراتيجيتها الساعية إلى إضعاف الحركة الشعبية سوى إعادة الاعتراف بهذا الحق في اتفاقية الخرطوم للسلام الموقعة في 17 آذار 1997 مع المنشقين عن الحركة الشعبية، قبل أن تمنح الاتفاقية بعداً إلزامياً نتيجة تضمينها في دستور عام 1998.
وعلى الرغم من انهيار الاتفاق لاحقاً، تحول مكسب تقرير المصير إلى ورقة ضاغطة في أيدي الحركة الشعبية التي رحبت به، لتفادي انشقاقات جديدة في داخلها.
وبعدما استسلمت الحكومة لنفوذ الحركة الشعبية بوصفها الفصيل الأقوى في الجنوب، بدأت وساطة الهيئة الحكومية للتنمية «إيغاد» التي انطلقت عام 1993 تشق طريقها نحو النجاح. وبعد اثنتي عشرة جولة من المفاوضات امتدت حتى عام 2002، وتركزت في كينيا، حققت محادثات السلام في نيروبي، على وقع الضغط الأميركي، اختراقاً بتوقيع اتفاق ماشاكوس في تموز من العام نفسه. وتوالى توقيع الاتفاقات المكملة من مذكرة التفاهم في تشرين الأول 2002 واتفاقية الترتيبات الأمنية في أيلول 2003، واتفاقية اقتسام الثروة في كانون الثاني 2004، وصولاً إلى اتفاقية نيفاشا في9 كانون من عام 2005 التي نصت نهائياً على حق الجنوبيين بتقرير مصيرهم لاختيار الوحدة أو الانفصال، مفسحة في المجال أمام استغلال الجنوبيين لفترة السنوات الست الانتقالية للعمل على تحقيق الانفصال.


توافق على أجواء نزيهة

توافق ممثّلو مجلس أحزاب الوحدة الوطنية والحركة الشعبية لتحرير السودان أمس على ضرورة إجراء استفتاء تحديد مصير الجنوب في أجواء نزيهة، واحترام نتائجه.
وأكد رئيس قطاع الشمال في الحركة الشعبية، ياسر عرمان، التزام الحركة إجراء استفتاء حر ونزيه وشفاف يؤدي إلى السلام الدائم، مشيراً إلى التزام الشريكين بحق تقرير المصير باعتباره جزءاً من استحقاق اتفاقية السلام الشامل.
وشدد عرمان على استمرار العلاقات والروابط المشتركة بين الشمال والجنوب في حال انفصال الجنوب، على اعتبار أن السودان هو الصلة بين الجنوب ومنطقة الشرق الأوسط، والجنوب هو الصلة بين الشمال وشرق أفريقيا. وأعلن استعداد الحركة لقيام مؤتمر دستوري عقب الاستفتاء.
من جهته، أكد الأمين العام لمجلس أحزاب الوحدة الوطنية، الأمين عبد القادر، مشاركة أحزاب الوحدة الوطنية في مراقبة الاستفتاء واحترام نتائجه وتوحيد جهود القوى السياسية للعمل على توحيد الرؤى وتقوية الروابط المشتركة بين الشعبين.