ذاع صيت تونس في السنوات الخمس الأخيرة على صعيد التقدم في ميدان المعلوماتية، وصار يعدّها خبراء الشبكة العنكبوتية من أكثر البلدان قدرة على اختراق هذا الفضاء والتجسس على مرتاديه، إلى حد إحصاء الأنفاس.
ومن المفارقات الغريبة أن الأمم المتحدة اختارت هذا البلد سنة 2005 لتنظيم القمة الدولية لمجتمع المعلومات، رغم أنه كان يعدّ من أكثر البلدان تشدداً في مراقبة الإنترنت، وسجن عدة مدونين في ميدان حقوق الإنسان. وكان هناك إجماع في أوساط خبراء المعلوماتية على أن تنظيم القمّة الدولية في هذا البلد يمثّل خسارة لعالم المعلوماتية، وضربة موجهة للمعايير الدولية للحقوق والحريات التي على الدولة أن توفرها لشعبها، حتى تكون دولة حق وقانون.
ومن الانتقادات التي وجّهت للأمم المتحدة أن تونس بعيدة كل البعد عن هدف القمة، وهو ردم الهوّة الرقمية بين دول الشمال الغنية المستخدمة بكثافة لوسائل الاتصال الحديثة والدول الفقيرة المحرومة من تلك الإمكانات، لأنها وظّفت الإنترنت ووسائل الاتصال الحديثة في قمع معارضي النظام.
وتمكن نظام بن علي من استضافة المؤتمر رغم الانتقادات الدولية لملفه الحقوقي والإعلامي والسياسي، إذ عدّته جمعية الناشرين الدولية ضمن أسوأ عشرة أنظمة في العالم قمعاً للإعلام.
وعرف هذا البلد أول محاكمة في العالم لمستخدمي الإنترنت. ومن المفارقات الفاقعة أن القمة الدولية نفسها شهدت جملة من ردود الأفعال التونسية في إطار التضييق على الصحافيين الذين حضروا لتغطيتها، إلى حد طعن مراسل «ليبراسيون» الفرنسية بسكين، فانقلب الإعلام الفرنسي رأساً على عقب على السلطة. كما أقدمت السلطة على محاصرة منظمات المجتمع المدني لمنعها من عقد مؤتمر مواز. وبلغت التدخلات درجة مضحكة، إذ قامت السلطة بقطع البث الرسمي عن خطاب رئيس الدولة السويسرية، لأنه أبدى استغرابه من وجود أعضاء في الأمم المتحدة لا يحترمون حقوق الإنسان، وأن مجتمع المعلومات لا يمكن أن يتم من دون حرية، وأن الحرية ينبغي أن تكون في تونس مضمونة داخل هذه القاعة وخارجها، فارتجت القاعة بالهتاف وقطع البث.
وكان اللافت أن نظام بن علي وجّه الدعوة لرئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه آرييل شارون، الذي أناب وزير خارجيته سلفان شالوم، الذي حطت به طائرة العال الإسرائيلية على أرض مطار تونس.
وعلى العموم، لم تكن الدعوة الإسرائيلية ذات طابع تقني ومقتصرة على المشاركة الدولية، بل تعدتها الى الشراكة المعلوماتية بين تونس وتل أبيب. وتقول أوساط معارضة تونسية في باريس إن شبكة المعلوماتية التونسية أنشئت بخبرات إسرائيلية من الألف إلى الياء. وأمدّت إسرائيل، المعروفة بتفوقها على صعيد تقنية أجهزة الاتصال الحديثة، الشبكة التونسية بآخر التقنيات لمراقبة الإنترنت والهاتف. وتؤكد المصادر أنه تم اختيار منزل بن علي القديم، الواقع في منطقة «ميتويل فيل» القريب من السفارة الأميركية، ليكون مقراً لغرفة العمليات المعلوماتية.
وتشير الأوساط التونسية إلى أن الرقابة المعلوماتية تجاوزت تقنيات التنصت القديمة، الى تحليل الأصوات وتسجيل بصمات صوتية، واعتراض كل ما يصل ويخرج عن طريق الإنترنت من صور ومراسلات مكتوبة، ومنعها من الوصول الى الجهة المعنية، أو حتى التدخل في تغيير مسارها لتصل الى جهة أخرى في بلد آخر.
يفسّر هذا جانباً من التعتيم الشديد على أخبار الانتفاضة الأخيرة، التي تسربت بعض صورها بفضل بعض المتخصصين التونسيين في المعلوماتية المقيمين في الخارج. استطاع هؤلاء التواصل من خلال وسائل التقنية الحديثة، ومنها الهاتف النقال لاستقبال بعض الصور التي التقطت للأحداث، وجرى تعميمها على وسائل الإعلام عن طريق «الفيس بوك» و«تويتر». وقد أحدث ذلك صدمة للجهاز المعلوماتي التونسي، الذي كان يعتقد أنه ضرب حصاراً كاملاً على هذا الصعيد. ورغم ذلك، كانت الصور قليلة بالنظر الى جسامة الأحداث وخطورتها وما رافقها من قمع رسمي ووقوع ضحايا بالأرواح وخسائر كبيرة بالماديات. واللافت أن وسائل الإعلام العربية والدولية، باستثناء قناة «الجزيرة»، لم تعط الحدث التونسي الأهمية التي يستحقها. وأكثر ما يثير الاستغراب هو موقف الصحافة الفرنسية التي درجت، عادة، على إيلاء تونس أهمية خاصة، لكنها ابتعدت كليّاً عن النظر إلى الانتفاضة، وتجاهلتها كأنها لم تكن. ورغم أن الصحافة الفرنسية مستقلة، إلا أنه يمكن عطف موقفها على السلوك الرسمي. وباستثناء الحزب الاشتراكي الفرنسي المعارض، لم يصدر أي تعليق من جانب أي جهة فرنسيّة أخرى، واكتفى الناطق الرسمي باسم وزارة الخارجية الفرنسية بترديد جملتين: الأولى أن «باريس تتابع الوضع التونسي باهتمام»، والثانية أنه «ليس لديها معلومات مؤكّدة عن عمليات القمع والاعتقالات التي تعرض لها المتظاهرون».
قبل الانتخابات الرئاسية الإيرانية في حزيران سنة 2009، استضافت الولايات المتحدة وعدة دول أوروبية عشرات الناشطين في ميدان المعلوماتية من المعارضين للنظام، وحين اندلعت التظاهرات الاحتجاجية على نتائج الانتخابات، برز دور هؤلاء في نقل الصورة للخارج. ما حصل في تونس على العكس، هو أن هناك من تطوع لنقل الصورة، وهناك من رفض استقبالها. الأمر يتجاوز ازدواج المعايير الى التواطؤ.