رحلات في فلسطين

هذه المرة، سأكتب عن رحلاتٍ كنت قد قمت بها داخل فلسطين التاريخية أيام «اللولو» وسريان اتفاقية أوسلو، إضافة إلى غضّ قوات حرس الحدود المحتلة النظر عن رحلات عائلات فلسطينية إلى فلسطين. لكن الداهية، أو الطامة الكبرى، كانت في اعتبارنا سياحاً! لا كأي سيّاح، كما في الأردن حيث هناك شيء اسمه السياحة الداخلية؛ إذ يذهب الأردنيون في رحلات سياحية داخلية إلى منفذهم البحري الوحيد، أي مدينة العقبة أو البتراء، بل في اعتبارنا سياحاً كغيرنا من الأجانب. المهم، انطلقنا في رحلتنا. كانت أول محطة في الزيارة، حديقة الزهور. ولا أعرف تحديداً أين تقع، لكنها في مكانٍ قريبٍ من الساحل، حيث يتعفّن جسد البارون الصهيوني روتشيلد. الشباب العرب والمعادون للصهيونية انتهزوا الفرصة لأخذ الصور، واقفين على قبره الرخامي الأسود. أنا أيضاً شاركت، لكن ليس بالصور، فمموّل احتلال فلسطين لم يكن يستحق مني أكثر من أن أتفّ على ضريحه.
في الحديقة، انثنت سيدة فلسطينية من السياح في «بلادهم»، لتصلح زهرة مكسورة الساق، فرآها حارس إسرائيلي عجوز، فقال لها بصوتٍ خفيض، لكنه مسموع: «هذا ورد مش خبيزة». بغضب، ردّت عليه: «وإحنا شو بنسوي مفكّرنا بنوكل ورد؟».
لم أكن في حياتي عنصرياً، لكنني في تلك اللحظة أجبت هذا المتخلف بالعبرية: «في الوقت الذي كنتم أنتم تقتلون الأطفال في لندن، كنا نحن نصدّر الورود للعالم». وكادت تشتعل حرب في الحديقة لولا تدخّل سائق الحافلة الذي فضّ النزاع قبل أن يتحوّل إلى اعتداء «مخرب عربي» على عجوزٍ مسكين.
من حديقة الزهور، أكملنا رحلتنا إلى الجليل المقدّس. في طريقنا إلى هناك، مررنا بعددٍ من القرى، وبالجنة المفقودة من الفردوس. بيسان، كلما تذكّرتها بكيت... هذه بيساننا. أكملنا إلى طبريّا حيث مشى المسيح الناصري، المولود في بيت لحم والمدفون في القدس، والذي يحمل الجنسية الفلسطينية الكاملة.
لم تكن الرحلة كما حلمت بها منذ طفولتي. لكن، برغم كل محاولات هؤلاء القائمين على احتلال جناتنا الأرضية، لم نكن سياحاً في وطننا ولم نكن غرباء عنه، ونحن نعرف. فهذا الجليل لنا، وطبريا لنا، وسيشرب منها يأجوج ومأجوج. لكنها ستكون فلسطينية كاملة الجنسية مثل المسيح ابن مريم.
الأردن ــــ معاذ عابد

■ ■ ■

لستم سياحاً


عندما يزور الإنسان وطنه المحتل، فهذه ليست سياحة خارجية، بل هي سياحة داخلية. فقط، هؤلاء المحتلون يشعرونكم بأنكم غرباء، لأنهم يفقدون الشعور بحقهم المزعوم في فلسطين، حتى ولو ولدوا فيها وكبروا فيها. أما الدليل، فهو ما قلته لي عندما «يسأل بعضهم بعضاً: من أين أنتم».
يقولون: من أين أنتم في البلاد؟ والمقصود فلسطين. لأنهم لو سألوا من أين أنتم بدون هذه الإضافة، أي «البلاد»، لاختلفت الإجابات تماماً. فبعضهم سيقول من بولندا أو من اليمن أو من روسيا أو من الولايات المتحدة... إلخ.
هكذا هم المحتلون. يحاولون الشعور بالانتماء إلى البلاد التي يستعمرونها، لكنهم مع ذلك يبقون بهذا الشعور من الغرابة والغربة.
فعندما تذهبون إلى طبريا الفلسطينية، تأكدوا أنهم سيعملون جاهدين على جعلكم تشعرون بالغربة، وأنكم تزورون بلاداً ليست لكم.
حتى هذا العجوز الذي صرخ بالسيدة أن هذه «وردة وليست خبيزة»، فقد عرف الخبيزة لأنها تنبت في بلادنا، ويعتقد أنه أكثر تحضراً من هذه السيدة. ألم يعرف العالم أن أول من غلف الفواكه هم أهل يافا؟
لنأخذ مثلاً يهود أوروبا، فهؤلاء يعيشون التميز هناك لأنهم ينتمون إليها، لا إلى أي بلد آخر في العالم.
ثمة شيء آخر. هذه بيسان وطبريا وحيفا وعكا ويافا وكل الساحل الفلسطيني، كلها لا تزال تحمل أسماءها الكنعانية، وهم في توراتهم يقرأون يومياً أنهم جاؤوا وغزوا بلاد الكنعانيين والفلسطينيين.
في أعماق أعماقهم غزاة، وكما جاؤوا سيرحلون، وحتى لو كتبوا ألف سفر فيها ألف وعد إلهي لهم ولأولادهم بفلسطين، ستبقى هذه الأرض من بدء التكوين إلى انقضاء الدهر تسمى فلسطين حتى لو مرّ كل غزاة الأرض عليها، وعاملوا أهلها كالسياح أو حتى كالعبيد. هذه فلسطين لشعبها الذي تكوّن معها عندما تكوّنت الأرض ووُجدت البشرية، وستبقى لأهلها وفي أهلها حتى انقضاء الدهر.
آمين.
عمان ــــ ربى حسن