صور ــ لم يسقط «بابا نويل» من مدخنة منزل الطفلة آرديميس أطاميان ليلة ميلاد المسيح، قبل أيام في مخيم البص. وهي، لم تزيّن الشجرة ولم تلبس الثياب الجديدة ولم تحمل الهدايا والشموع، سائرة في شوارع لم تحتفل أصلاً. مرّ الميلاد كغيره من الأيام هناك، حتى إن كنيسة الأرمن في المخيّم، المقفلة منذ رحيل هؤلاء عن المنطقة، استمرت على عادتها، مغلقة، ولم تفتح أبوابها لأبناء رعيتها الذين احتفلوا بالعيد في أماكن إقامتهم الحالية.
وحدها آرديميس تعيش في مخيم البص، بقيت ووالدتها وإخوانها الثلاثة من عائلة أطاميان هنا، مستبدلين الاحتفال بعيدهم، بالاحتفال بعيد الميلاد وفق التقويم الغربي في الخامس والعشرين من الشهر الماضي، فهنا لم يعد من يحتفل المحتفلون معه، وربّما لذلك يختار هؤلاء «ميلاد الأكثرية». لكن ذكريات هذا العيد في البص والرشيدية، لا تزال محفورة في ذاكرة الصوريين وذاكرة أدونيس أطاميان، الأخ الأكبر لآرديميس، الذي يتذكّر أننا «كنا نجتمع في مكان واحد حيث نقيم حفل عشاء وأمسيات فنية راقصة ونشعل موقدة من الحطب».
لكن، متى حدث هذا التحوّل؟ يغوص أطاميان في ذاكرته، فيقول إن «بداية رحيل الأرمن من المنطقتين باتجاه بيروت وعنجر تزامنت مع بداية التهجير الفلسطيني». وينقل عن عمه الراحل رافي أطاميان، الذي ظل لسنوات عدة مختاراً للأرمن أن «الانتقال بدأ منذ عام 1948 إثر هجرة الفلسطينيين الذين حلّوا في منازل الأرمن المقيمين في بيروت». يتابع: «كانت ثورة 1958 التي اندلعت في صور، سبباً إضافياً لدفع من بقي إلى الرحيل، ثم تفاقمت الصعوبات بعد اتّفاق القاهرة واندلاع الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي وحرب المخيمات».
يكمل أطاميان ما كان قد أخبره عنه عمّه: «صندوق المخترة كان واحداً لكلتا المنطقتين، إلى أن صدر القرار بفصلهما في دورة الانتخابات الاختيارية والبلدية عام 1998 لاحتساب المجنّسين الذين أضيفوا إلى دائرة نفوس البص إلى جانب الأرمن المسجّلين منذ عقود». أما في الرشيدية، فهناك نحو ألفي أرمني مسجل في دوائرها. تشير أوراق المختار إلى أن المنطقة كانت الأكثر جذباً للأرمن في لبنان، بعد هجرتهم إثر ضمّ فرنسا لواء الإسكندرون المستقل إلى تركيا عام 1938. مع ذلك، لا يزال البص والرشيدية يحملان معالم الأرمن فيهما، فالمستشفى الأول في صور بناه عام 1929 الطبيب ميناسيان، إلى جانب مستشفى سعد الله الخليل المهجور منذ سنوات، وكنيسة الأرمن البروتستانت التي هدّمتها الحكومة عام 1956 ومستشفى صور الحكومي، والكنيسة الكاثوليكية التي قُدمت لاحقاً إلى الفلسطينيين لتحويلها إلى مدرسة. كل ذلك، فضلاً عن الصيدليات ومحال الصناعة وميكانيك السيارات والزراعات التي اشتهر بها الأرمن، مثل «البطاطا الحلوة وشجر التوت، التي لا تزال تغطي مساحات واسعة من حواكير المنازل في المخيمين»، حسب أطاميان. وكان المختار رافي أطاميان، عم أدونيس الذي توفي بعد عام، قد أوضح في حديث سابق لـ«الأخبار»، أن الأرمن طالبوا مراراً «بإقامة تجمع لهم على نفقة مجلس الجنوب بصفتهم مهجرين، في ظل عدم إمكانية الحديث عن المنازل القديمة، بسبب شغلها من اللاجئين الفلسطينيين منذ عام 1948». وكان الاقتراح أن يكون المكان البديل في منطقة «البقبوق شمال صور، لكن هذا الاقتراح لم يبصر النور بحجة المستقبل السياحي للمنطقة».



لا صكوك ملكيّة


بعد تهجير الأرمن من بلادهم الأم إلى لبنان، وفّرت لهم الحكومة اللبنانية على أراضيها في البص والرشيدية منازل بمعدل غرفة ومطبخ وحمام لكل أسرة منهم. ويروي أدونيس أطاميان، نقلاً عن عمّه رافي أطاميان، أنّه في أواخر الثلاثينيات، وبإيعاز من الجمعية الخيرية العمومية الأرمنية التي يرأسها نوبار باشا، اشترى العديد من اللاجئين الأرمن قطع أرض دفعوا ثمنها في بنك سوريا ولبنان، إلا أنهم لم يحصلوا على صكوك ملكيّة. وكان يطلق على مخيم البص سابقاً اسم «نوباران» نسبة إلى نوبار باشا.