قبل عملية انطلاق استفتاء تقرير مصير جنوب السودان، حرص حزب المؤتمر الوطني الحاكم على التأكيد أنّ «انفصال الجنوب لن يعيد السودان إلى زمن التقشف والكسرة»، إلاّ أنه ما كاد موعد الاستفتاء يقترب حتى كانت الحكومة السودانية تعتمد خطة طوارئ اقتصادية، عنوانها الأبرز خفض الدعم الحكومي، وزيادة أسعار السلع الغذائية الرئيسية، في محاولة منها لتدارك الآثار السلبية للانفصال، التي يُتوقع أن تبدأ الحكومة بمواجهتها تدريجياً وبطريقة تصاعدية.
ووسط حالة من التماهي بين نواب حزب المؤتمر الوطني الحاكم والحكومة السودانية، أقر البرلمان خطّة تضمنت زيادة أسعار المشتقات النفطية التي تدعمها الحكومة بنسبة تقارب الـ 40 في المئة، فيما فرضت رسوم جديدة على السكر المحلي بزيادة تقارب الـ7 دولارات للكيس زنة 50 كيلوغراماً.
وتشمل الخطة تقليص الإنفاق العام الذي يستهلك 80 في المئة من ميزانية الدولة، بعدما أعلن خفض رواتب 149 مسؤولاً حكومياً بنسبة 25 في المئة، وتقليص ميزانيات البعثات الدبوماسية الخارجية بنسبة 10 في المئة، إلى جانب خفض السفريات الخارجية لمسؤولي الحكومة.
خطوات إضافية أعلنها المصرف المركزي، تمثّلت في حظر استيراد قائمة من السلع الاستهلاكية، بينها الأثاث والحيوانات والمياه الغازية. أما الهدف الرئيسي من هذه الإجراءات، فيتمثّل في محاولة تقليص العجز في الميزان التجاري، إضافةً إلى محاولة الحفاظ على النقد الأجنبي المتوافر في السودان.
ووسط المخاوف من أزمة سيولة أجنبية، في ظل توقعات بأن يؤدي تقلص إيرادات النفط إلى انخفاض الاحتياطي الأجنبي لدى المصرف المركزي بنسبة لا تقل عن 10 إلى 13 في المئة، اضطر الأخير إلى خفض قيمة الجنيه السوداني بطربقة غير رسمية منذ تشرين الثاني من خلال مضاهاة سعر السوق السوداء. كذلك لجأت الحكومة، قبل نهاية العام الماضي بأيام، إلى رفع الرسوم الجمركية على العديد من السلع المستوردة.
أما دافعو الثمن، فليسوا بطبيعة الحال سوى المواطنين، الذين بات عليهم اليوم التعامل مع موجة ارتفاع الأسعار والاستعداد للأسوأ، بما في ذلك احتمالات فرض ضرائب جديدة وارتفاع معدلات البطالة المحددة بـ14 في المئة وفق الأرقام الرسمية، فيما تشير التقديرات غير الرسمية إلى 20 في المئة، وذلك بعدما بشّرهم وزير المال السوداني، علي محمود محمد، بأن الإجراءات التي تهدف إلى توفير قرابة 670 مليون دولار ليست سوى أول الغيث، وأن المرحلة الثانية من رفع الأسعار ستأتي قريباً لتطيح الدعم الذي أعلنته الحكومة للموظفين من أصحاب الأجور المتدنية بقيمة 33 دولاراً.
وتأتي هذه الإجراءات التقشفية في وقت يتوقع فيه أن تفقد الحكومة السودانية، التي تعتمد 60 في المئة من ميزانيتها على عوائد النفط، قرابة الـ30 في المئة من حجم إيراداتها في أول سنتين من الانفصال، على أن تفقد معظم إيراداتها النفطية الآتية من الجنوب خلال السنوات التالية.
كذلك تشير التقديرات الاقتصادية إلى أن الشمال سيفقد مع انفصال الجنوب 33 في المئة من الموارد البشرية، و25 في المئة من الأراضي الصالحة للزراعة، إضافةً إلى 60 في المئة من ثروته الغابية، و70 في المئة من الحياة البرية، فضلاً عن 55 في المئة من الثروة الحيوانية، و60 في المئة من الثروة السمكية.
في المقابل، ستستفيد الحكومة المركزية مؤقتاً من اضطرار الجنوب، الذي يمتلك 75 في المئة من نفط السودان، إلى استخدام أنابيب النقل ومصافي التكرير وموانئ التصدير الشمالية، للاحتفاظ بجزء من العوائد النفطية كرسوم تتقاضاها عن استخدام الجنوب لمنشآتها، وسط تقديرات لخبراء اقتصاديين بأن يجري التوصل إلى اتفاق بين الطرفين تقسم فيه عوائد النفط الجنوبي خلال المرحلة المقبلة بنسبة 60 في المئة للجنوب، مقابل 40 في المئة للشمال.
وبعدما كان النفط عصب الاقتصاد السوداني لسنوات طويلة، فإن فقدان نسبة كبيرة من إيراداته ستكون له تداعيات اقتصادية على الشمال، بعدما فشلت الحكومة السودانية طوال السنوات الماضية في استغلال عائداته وما تمتلكه من موارد طبيعية لإطلاق ما يكفي من المشاريع التنموية القادرة على تنويع مصادر الدخل.
ولم تستطع الحكومة السودانية الاستفادة من ثروتها الحيوانية الأغنى في العالم، والمقدّرة بنحو 40 مليون رأس من الأبقار والأغنام. وتضطر سنوياً إلى استيراد منتجات الألبان والأجبان من الخارج بأكثر من 150 مليون دولار، وعموماً يستورد السودان مواد غذائية تقدر بـ 1.6 مليار دولار، أي نحو 17 في المئة من إجمالي وارداته، بينها القمح بنسبة تصل إلى 80 في المئة، فيما يستورد منتجات صناعية بنحو 6.8 مليارات دولار، من بينها 341 مليون دولار منسوجات.
وأدى إهمال القطاع الزراعي إلى اقتصار الأراضي المزروعة على مليوني فدّان من أصل 4 مليارات صالحة للاستخدام، على الرغم ممّا يمكن أن تمثّله إيرادات هذا القطاع من بديل حقيقي للإيرادات النفطية، ولا سيما بعدما قدر الخبراء مساهمة القطاع الزراعي حالياً في 11 في المئة من ميزانية الدولة السودانية، وذلك على الرغم من بدائية الوسائل التي يستخدمها المزارعون.
واللافت أن السودان، إحدى دول النيل، يضطر إلى استيراد مياهه المعدنية من الخارج، فيما القطاع الأكثر ازدهاراً في الشمال يتمثل في إنتاج الأسلحة.
أما تعويل النظام السوداني على تدفق الاستثمارات الأجنبية، وتحديداً العربية، لتمويل العديد من المشاريع التنموية، إلى جانب التوصل إلى تسوية لملف الديون التي تثقل كاهل الموازنة، فيرتبط ارتباطاً رئيساً بقدرة النظام السوداني على تأمين حد أدنى من الاستقرار السياسي في الشمال من جهة، وبين الشمال والجنوب من جهة ثانية.