الخرطوم| امتزجت رائحة الطعام المنبعثة من القدر الكبير أمام متجر خليل الحداد في سوق «بحري» برائحة التوابل التي تعبق من متجره. وبينما كان خليل يعكف على تناول طعامه، بمشاركة زملائه التجار، كان بين حين وآخر يناول زبائنه، على قلّتهم، حاجياتهم اليومية من التوابل والمواد الغذايئة الأخرى التي اعتادوا من قبل على شرائها بـ«الجملة»، وهي عادة يبدو أنها اندثرت منذ أن أعلن وزير المال في السودان
، قبل 72 ساعة من بدء عملية الاقتراع لاستفتاء تحديد مصير الجنوب، زيادة أسعار بعض السلع التموينية الأساسية، وتحديداً السكر والمحروقات.
ورغم الشكوى من انخفاض القدرة الشرائية للسودانيين، وتراجع حجم الطلب، يرى خليل أن الزيادة الأخيرة في الأسعار أتت في مصلحة التجار «الصغار»، بعدما اضطر بعض التجار، الذين يحتكرون السوق، إلى بيع بضاعتهم لتجار المفرق بأيّ ثمن، وذلك بعد استيرادهم العديد من السلع وتخزينها، على أمل بيعها بأسعار مضاعفة عند ارتفاع الطلب عليها مع انطلاق عملية الاستفتاء.
وفيما يرى خليل أن من الأفضل للشمال الانفصال عن الجنوب، أبدى محمد، صاحب محل للأثاث، توجّسه من التداعيات السلبية للانفصال على الاقتصاد السوداني، ولا سيما بعدما عمدت الحكومة، في محاولة للتغلب على تداعياته، إلى إصدار قرار بمنع استيراد العديد من السلع، وبينها الأثاث من الخارج.
ووفقاً لمحمد، فإن أسعار بورصة الخشب الآتي من الجنوب ارتفعت إلى أكثر من ضعفين، مبدياً توجسه من أنه في حال انفصال الجنوب، فلن يكون أمام تجار الأثاث في الشمال سوى خيارين، إما العمل بخشب أقل جودة من منطقة النيل الأزرق أو إغلاق المصانع إلى الأبد.
وعلى عكس الانقسام في آراء التجار، يجمع المواطنون السودانيون على انتقاد إقدام الحكومة السودانية على رفع أسعار المحروقات والسكر.
وهاجمت أمل محمد، التي انعكست على ملامح وجهها الشاب علامات الحيرة وهي لا تعرف ماذا تفعل بما بقي معها من نقود، وقد أنفقت نصفها دون أن تلبّي احتياجات يومها، محاولة حكومة ولاية الخرطوم الحدّ من تداعيات رفع الأسعار من خلال الاتفاق مع الجمعيات التعاونية لتوزيع «سلة الطبيخ»، التي تحتوي على الخبز والسكر واللحوم البيضاء والخضروات. وقالت بحنق «سلة طبيخ الوالي لن تجدي وإن عمد الى توزيع سلتين»، شاكيةً مما تعانيه معظم الأسر السودانية، بقولها «نعيش في منزل مستأجر، وتعرفة المواصلات ازدادت، وأسعار الخبز هي الأخرى ازدادت. لا ندري ماذا نفعل». كما أبدت أمل مخاوفها تجاه الوضع الأمني الذي ستولّده مثل تلك الظروف الاقتصادية الضاغطة.
وفيما صبّت أمل، على غرار العديد من السودانيين، جام غضبها على التجار، يشعر سعيد وهو صاحب محل تجاري متخصص في بيع المواد التموينية بالأسى وهو يروي كيف أنهم يتلقّون غضب المواطنين المتذمرين. وقال لـ«الأخبار» «لا ذنب لنا في زيادة الأسعار، غير أننا نجد أنفسنا في وجه المدفع».
ويتوقع سعيد أن يؤدي الانفصال الى انخفاض أسعار بعض السلع، وخصوصاً البضائع المستوردة التي عمد التجار الى تخزينها. فمن وجهة نظره، لن يجد التجار بعد الانفصال مفراً من بيعها لإرجاع رأس المال على الأقل، حتى إن بعض التجار بدأوا بالتخلص من بضاعتهم بأقل من سعر الشراء.
ويقول سعيد إن بعض المصانع المحلية والشركات أغلقت أبوابها بصورة نهائية نتيجة عدم توازن السوق وخوفهم من أن الآتي ربما يكون اسوأ.
وفي نبرة غلب عليها اليأس من تحسّن الأوضاع، يشكو عادل، الذي يعيل أسرته الصغيرة المؤلفة من ثلاثة أفراد، من أن مسلتزمات طفله قد أثقلت كاهله «في ظل موجة غلاء اكتسحت أمامها كل شيء، دون أن تستثني مستلزمات حديثي العهد بالدنيا وهمومها».
ويقول عادل لـ«الأخبار» «فوجئت بارتفاع أسعار كل شيء، ما كنت أشتريه بنصف دولار أضحى اليوم بدولار وربع». ولمّا كانت الأزمة المالية تكتسب صفة العالمية، فإن الاحتجاج على الغلاء، من وجهة نظر عادل، يجب أن يتخذ صفة العالمية، وضرورة الخروج إلى الشارع على غرار ما يحصل في تونس والجزائر. غير أنه يستدرك قائلاً «لكننا نحتاج الى خمسة أعوام أخرى حتى نتملك جرأة الخروج الى الشارع لتغيير الأوضاع التي لا نرضى بها».
تشاؤم عادل لا يبدو أنه قد يدوم طويلاً، بعدما كشف مسؤولو معارضة وشهود عن اشتباك بين طلاب من جامعتي الخرطوم والجزيرة مع الشرطة السودانية في قلب المنطقة الزراعية في الشمال أول من أمس بسبب خفض الدعم الحكومي وارتفاع غير مسبوق في أسعار السلع.
وفي جامعة الخرطوم، قال الطالب الفاضل علي إن الشرطة ضربت عشرات الطلبة الذين تظاهروا احتجاجاً على ارتفاع الأسعار، مشيراً إلى إصابة خمسة أشخاص بجروح طفيفة، فضلاً عن إلقاء القبض على عدد غير محدد. وبعدما تحدث علي عن وجود كثيف جداً للقوات الأمنية، أكد أنهم «يخشون من أن يؤدي ذلك إلى ثورة».
بدورها، أكدت شذى عثمان عمر من الحزب الديموقراطي الوحدودي المعارض في الجزيرة أن عدة أشخاص أصيبوا خلال اشتباكات بين الشرطة والطلبة المحتجّين في الشوارع. وأضافت إن الشرطة ضربتهم بالعصيّ وألقت القبض على ثلاث طالبات.
من جهته، رأى مسؤول قطاع الشمال في الحركة الشعبية لتحرير السودان، ياسر عرمان، أن الانتشار الأمني المكثف الذي شهدته الخرطوم في الأيام الماضية لا يتعلق بالاستفتاء، مشيراً إلى أن هذه الإجراءات تهدف إلى حماية الحكومة من الاحتجاجات الاجتماعية بعد ارتفاع الأسعار. وأضاف إن الشمال يشعر بأن الحكومة خانت كل أحلامه في ميلاد مجتمع جديد ووجود مسار مختلف، كان من الممكن أن يحافظ على وحدة السودان.