ثورة مضادة، هو التوصيف الدقيق لما يحصل في تونس. ومنذ أن رحل زين العابدين بن علي، بدأت المحاولات في ثلاثة اتجاهات لإجهاض الحلم التونسي. الاتجاه الأول دستوري، من خلال تكليف رئيس الحكومة السابق محمد الغنوشي نفسه تولي مهمات بن علي في «صورة مؤقتة». لكن هذه اللعبة المسرحية كان ينقصها الإخراج المتقن، فسقطت ما إن أشرقت شمس اليوم الثاني، وأعلن المجلس الدستوري بطلانها. واعتمد المجلس على المادة 57 من الدستور ليعلن شغور موقع الرئاسة، ونقل السلطة إلى رئيس مجلس النواب فؤاد المبزع، الذي كلف الغنوشي تأليف حكومة انتقالية. وجرت مداولات واسعة طوال اليومين الماضيين للوصول إلى صيغة ترضي الأطراف كافة، لكن الشقاق واسع بين مطالب القوى السياسية، التي واكبت الانتفاضة، وبين رؤية طاقم النظام القديم الذي يعمل على قطف ثمرة الانتفاضة بالاستعانة بالجيش.
هذا الإخراج لا يتماشى مع سياق الحدث التونسي. وباعتبار أن رحيل بن علي كان بفعل انتفاضة شعبية، فإن عملية الانتقال تتطلب مقاربة مختلفة يكون الأساس فيها تصفية إرث نظامه. لكن العكس هو الحاصل، حيث إن المبزع والغنوشي رمزان من رموز النظام السابق.
مسألة أخرى تتعلق بالدستور وانتخاب رئيس الجمهورية. ومن هذه الزاوية فقد فصّل بن علي نصوص الدستور على مقاسه، حيث بات من يرغب في ترشيح نفسه للرئاسة لا بد أن يلبي جملة من الشروط، ومنها الحصول على تزكية عدد من أعضاء مجلس النواب ورؤساء البلديات، وهم من مخلفات نظام بن علي، فإن ذلك يخلق إشكالاً على مستوى التنافس الحر على الرئاسة. وبالنظر إلى أن انتخابات الرئاسة يجب أن تجري في غضون ستين يوماً، فإن عامل الوقت سيؤدي دوراً حاسماً في تحديد شخصية الرئيس المقبل. وما بات يخشاه الشارع التونسي هو أن تجري حركة التفاف على انتفاضته، تنتهي بتثبيت مسألة إسقاط رأس النظام، وإبقاء الجسم العام للنظام.
الاتجاه الثاني أمني، وتبين ذلك من خلال حال الانفلات التي سادت في اليوم التالي لهرب بن علي، وجرت اعتداءات واسعة على الممتلكات العامة والخاصة وعمليات تخريب ونهب واسعة النطاق. وأشارت شهادات نقابية إلى أن مرتكبي التجاوزات هم من بقايا النظام السابق وجرى الحديث عن دور أدته ميليشيات خاصة كان يقودها رئيس جهاز الأمن الرئاسي علي السرياتي.
والملاحظ أنه، بناءً على أوامر، أُفرغت السجون كلياً من آلاف السجناء، المتهمين بجرائم. والهدف من وراء ذلك واضح هو خلق بلبلة أمنية واسعة.
وجرى الحديث عن عمليات تخريب واسعة قامت بها عصابات من النظام في معظم المدن، ورد الجيش بحملة مطاردات واعتقالات شملت المئات من هؤلاء. كذلك فإن الاتحاد العام التونسي للشغل ألف هيئات شعبية لحراسة الأحياء وحماية الممتلكات العامة والخاصة.
ورقة الإرباك الأمني التي لعبها أقطاب من الجهازالأمني لبن علي مثّلت تغطية لإمرار عملية نقل السلطة إلى المبزع، وتهدئة فورة الشارع، لكن المزاج العام يسير في اتجاه تصفية بقايا النظام السابق، والمسألة صارت في حساب سباق الزمن، ومقدرة الأطراف على ترتيب أوضاعها.
والاتجاه الثالث عربي وإقليمي، ويتمثل الجانب العربي في استقبال السعودية لبن علي. ورغم أن المملكة أكدت أنه لاجئ إنساني، فإن ذلك لا يجرد القضية من بعدها السياسي المباشر، ويضع السعودية في مكانة المتضامن مع الرئيس المخلوع.
والجانب الثاني من المسألة يمكن قراءته من خلال تصريحات العقيد معمر القذافي، الذي خصه بن علي، في خطابه ما قبل الأخير، بثناء خاص من دون سائر زعماء العالم. القذافي أبدى حزنه على رحيل بن علي ووبخ التونسيين على طردهم له بهذه الطريقة، وأبدى استغرابه كيف أنهم لم يتحملوه حتى يكمل ولايته الرئاسية حتى سنة 2014. ورأى أنه كان من الأفضل للشعب التونسي أن يظل بن علي، على أن تعيش تونس تداعيات رحيله.
موقف السعودية وليبيا لا يمكن فهمه إلا في سياق تضامن الحكام العرب ضد شعوبهم. وبالتالي فإنه يضيرهما أن يخرج شعب عربي آخر إلى الشارع ليقلب الوضع. وتبدو ليبيا أحد أكثر المتأثرين بانهيار نظام بن علي. ولولا أن صدى غضب الشارع التونسي لم يبلغ آذان العقيد القذافي، لما كلف نفسه عناء التعليق على المسألة، ولا سيما أنه لم يكف طوال عقود، عن نصح الجماهير للزحف من أجل إحداث التغيير الذي تنشده.
حنق القذافي نابع من إدراكه لخطر العدوى التونسية، لذا فإن مواقفه تظل جديرة بالمراقبة. فهو مرشح لأن يشيع قدراً كبيراً من البلبلة، ولا سيما أن مجموعات أمنية محسوبة على نظام بن علي اجتازت الحدود في اتجاه ليبيا.
سرقة الانتفاضة الشعبية تهدف إلى إيقاف الأمور عند هرب بن علي، أما نظامه وأجهزته فانه يُراد، من خلال الاستعانة بالدستور الحالي، إبقاؤها كما هي.