خطابان يتجاذبان الشارع التونسي. الأول يدعو إلى مواصلة الانتفاضة الشعبية حتى اجتثاث آخر مظهر من مظاهر النظام القديم، والثاني يرى الاكتفاء بالقدر الذي تحقق. وصار واضحاً أن المعارضة الإسلامية، ممثلة بحركة «النهضة» ومعها قوى اليسار الراديكالي الذي يعبّر عنه حزب العمال الشيوعي، هما من ينتهجان خطاً بات يوصف بالتشدد والتصعيد. ويتلخص موقف هذين الطرفين برفض تام للحكومة الحالية، وبالإصرار على رحيلها، وحل الحزب الحاكم (التجمّع الديموقراطي الدستوري)، وإبعاده عن الحياة السياسية كلياً. أما القوى القومية، فهي ترى أن الانتفاضة أنجزت مهمتها الأساسية بإسقاط النظام وهرب رئيسه، وإقصاء حزبه عن الحكم، ولا داعي لحل الحكومة الحالية بعدما استقال المنتمون إلى الحزب الحاكم من عضويته. مشروع أصحاب الاتجاه الأول هو إعادة صياغة الحياة السياسة من الصفر. وعبّرت عن هذا الخط تصريحات ومواقف كل من زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي، والناطق الرسمي باسم حزب العمال الشيوعي حمة الهمامي. وترجمة هذا الطرح تكون من خلال رحيل الحكومة الحالية، واستبدالها بحكومة وحدة وطنية من القوى والأطراف التي شاركت في الانتفاضة.
دعاة الاتجاه الثاني يرون في هذا الطرح مدخلاً إلى فراغ سياسي، تترتّب عليه حال من الفوضى غير المحسوبة، فيما تحتاج البلاد إلى التهدئة، وعودة الحياة الطبيعية. ويقول أصحاب هذا المشروع إن الحكومة الحالية قدمت كل التعهدات على أن مهمتها هي انتقالية فقط. ويعارض هؤلاء، على نحو خاص، اجتثاث الحزب الحاكم. ويقول هؤلاء إن هذا الحزب متجذّر في التربة التونسية، وهناك مجموعات كبيرة من كوادره مستعدة للقتال من أجل الدفاع عن حق البقاء على قيد الحياة السياسية. وبالتالي، فإن الحكمة تستدعي إعطاءهم فرصة لكي يتناغموا مع الوضع الجديد، ويجدوا الأسلوب ليصحّحوا أخطاء الماضي.
وحصلت مشادة بين الطرفين، مساء الجمعة الماضي، خلال اجتماع تداولي في العاصمة بين قيادات إسلامية وقومية، وجرى خلاله تبادل اتهامات بين الطرفين. فالقوميون، على لسان المحامي الناصري محمد الشرياق، رأوا أن الإسلاميين يمارسون تصعيداً لن تكون عواقبه حميدة، وهو سيقود إلى فوضى عامة يضطر بعدها الجيش إلى التدخل مباشرة لحسم الموقف، وربما لتسلّم الحكم، بعدما اكتفى حتى الآن بأداء دور الحكم بين الأطراف السياسية كلها، والحفاظ على الأمن. بينما ردّت قيادات من النهضة (حمادي الجبالي وعلي العريض) بالقول إن إرادة الشارع فوق الجميع، والجماهير التي أسقطت النظام السابق لن تقبل بأقل من اجتثاثه كلياً.
ويبدي القوميون تخوّفاً من أن يقود التصعيد في الوقت الراهن إلى تدخل إقليمي ودولي، ويشيرون إلى تحركات أميركية وفرنسية في اتجاه عواصم قريبة كالجزائر. ويرون أن الأطراف الدولية أساءت تقدير وضع النظام السابق، وساندت نظام بن علي حتى لحظة سقوطه، وهي تعمل الآن على استيعاب الدرس، وهدفها الرئيسي ألّا يخرج الحكم الجديد عن الخطوط السياسية العريضة التي سار عليها بن علي طيلة ربع قرن. وإضافة إلى أن تونس تمثّل منطقة مصالح غربية حيوية على الصعيد الاقتصادي، فإن هناك جملة من الالتزامات التي لا يمكن الغربيين أن يساوموا عليها، ومنها دور تونس في الحرب على ما يسمّى الإرهاب، وضبط نشاط الحركة الإسلامية، والتنسيق الأمني والعسكري، والعلاقة مع إسرائيل.
الجيش بالنسبة إلى القوميين هو الجدير بالمراقبة في الفترة الحالية. فهو التزم بدور الحكم وأداء الدور الرئيسي في إنهاء نظام بن علي، وسلّم السلطة إلى المدنيين. ولكن في حال عدم توصّل السياسيين إلى مخرج توافقي، فإنه سيخرج من وراء الستارة ليتصدّر المشهد. ويرى كوادر من الحركة القومية في باريس أن خطاب زعيم حركة النهضة راشد الغنوشي يدفع في اتجاه تدخل الجيش. ويقول المنجي خلفت، وهو عضو مجلس وطني سابق في الحزب القومي المعروف باسم «الاتحاد الديموقراطي الوحدوي»، إن تصريحات الغنوشي تحيلنا على موقفه سنة 1987 قبل وصول بن علي، عندما كان يقول إما الحركة الإسلامية وإما بورقيبة، وكانت النتيجة انقلاب بن علي تحت ذريعة قطع الطريق على الإسلاميين.
وفي ما يتعلّق باجتثاث الحزب الحاكم، يرى خلفت أنه في حال تشظّيه، فإنه سيتوزّع في 3 اتجاهات: الأول هو الذي سيدخل في السريّة وهذا يمثّل النواة الصلبة التي كانت تحيط ببن علي وعلى رأسها الأمين العام محمد الغرياني، والثاني سيذهب ليصبّ في رصيد الحركة الإسلامية، أما الثالث فسيلتحق بالحركة القومية، التي تعمل على تأليف تجمّع قومي واسع باسم «حركة الشعب»، يضم الناصريين والبعثيين والمستقلين. وتقدّر قوة هذا التيار بنسبة 15 في المئة من الشارع، وهي تأتي بعد الحركة الإسلامية التي لا يتجاوز حضورها نسبة 20 في المئة. ويقول خلفت إن اتفاق القوميين والإسلاميين على مخرج سيمثّل نقطة التوازن في المرحلة المقبلة، أما اختلافهما فسيقود إلى تدخّل الجيش مباشرة.