كشفت وثائق سرية، بدأت فضائية «الجزيرة» بنشرها، مساء أمس، مسلسل فضائح يتعلق بالمفاوضات الفلسطينية ـــ الإسرائيلية، تُبيّن أنّ السلطة الفلسطينية تنازلت عن مطالبها بإزالة كل المستوطنات الإسرائيلية في القدس الشرقية، باستثناء مستوطنة جبل أبوغنيم أو «هارحوما»، حتى إنها أعربت عن استعدادها لتقديم تنازلات غير مسبوقة في الحرم الشريف الذي يضم المسجد الأقصى، وحيَّ الأرمن وحيّ الشيخ جراح.
فضائح مزوّدة بخرائط تُظهر أنّ سلطة الرئيس محمود عباس عرضت تبادلاً للأراضي مع إسرائيل بنسبة 1 على 50 في القدس المحتلة، بمعنى أن كلّ كيلومتر تخليه إسرائيل من القدس، تنال في مقابلها 50 كيلومتراً من الأراضي الفلسطينية في إطار الحل النهائي.
وأظهرت محاضر جلسات المحادثات المتعلقة بما بات يعرف بقضايا «الوضع النهائي»، أنّ مفاوضي السلطة قبلوا بأن تضمّ الدولة العبرية كل المستوطنات في القدس الشرقية، باستثناء مستوطنة جبل أبوغنيم. وبحسب محضر اجتماع بتاريخ 15 حزيران 2008، حضره مفاوضون أميركيون وإسرائيليون، قال رئيس طاقم المفاوضات في السلطة الفلسطينية في حينها، أحمد قريع، إن «هذا المقترح الأخير يمكن أن يساعد في عملية تبادل الأراضي». وأضاف أبو العلاء «اقترحنا أن تضم إسرائيل كل المستوطنات في القدس، ما عدا جبل أبوغنيم». ويتابع «هذه هي المرة الأولى في التاريخ نقدم فيها مقترحاً كهذا، وقد رفضنا أن نفعل ذلك في كامب ديفيد» عام 2000.
وقد مثّل حديث قريع هذا، خلاصة واضحة لما عرضه الوفد الفلسطيني المفاوض بالخرائط في الرابع من أيار 2008، وهو الاجتماع نفسه الذي قال فيه قريع للإسرائيليين إنّ «هناك مصلحة مشتركة في إبقاء بعض المستوطنات».
وبحسب الوثائق التي قالت «الجزيرة» إن عددها 1600 ستنشرها كاملة في الأيام المقبلة، فقد نحا كبير المفاوضين الفلسطينيين صائب عريقات منحى قريع نفسه، عندما قال، في اجتماع بتاريخ 21 تشرين الأول 2009 مع المبعوث الأميركي إلى منطقة الشرق الأوسط جورج ميتشل ونائبه ديفيد هيل والمستشار القانوني لوزارة الخارجية الأميركية جوناثان شوارتز، إنه «بالنسبةإلى المدينة القديمة، فإنها تكون تحت السيادة الفلسطينية، ما عدا الحي اليهودي وجزءاً من الحي الأرمني». وبشأن الموقف من مصير القدس القديمة، يتابع عريقات مشيراً إلى أنه «يمكن حل مسألتها ما عدا الحرم الشريف وما يدعونه هم جبل الهيكل. هنا نحتاج إلى أفكار مبتكرة. إنها محلولة. لديكم صيغة معايير كلينتون (خطة قدمها الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون بعد فشل مفاوضات كامب ديفيد، وتقضي بموافقة مشروطة على «الكتل الاستيطانية غير الشرعية»، وأن يحصل تبادل للأراضي بين ما قبل 1967 وأراضي الضفة الغربية). وبالنسبة الى السيادة على المدينة القديمة، ما عدا الحي اليهودي وأجزاء من الحي الأرمني، يمكن أن يترك الحرم للنقاش لاحقاً، هناك طرق مبتكرة بحاجة إلى أناس مثلي، مثل تعيين هيئة أو لجنة تتولى مثلاً عدم الحفر تحت المسجد الأقصى. الشيء الوحيد الذي لا أستطيع فعله هو أن أتحوّل إلى صهيوني».
هنا أجابه شوارتز بأنه «يجب التشاور مع السيناتور ميتشل، هذه فكرتك الخاصة»، فما كان من عريقات إلا أن اعترف بأنّ «هذه المحاورة هي بصفتي الشخصية». لكن شوارتز صارحه بأنّه «سمعنا الفكرة من آخرين، لذلك أنت لست أول من يطرحها».
وقد نال حيّ الشيخ جراح في القدس المحتلة، هو الآخر، نصيبه من مسلسل التراجع الفلسطيني كما تشير إليه الوثائق السرية. فبشأنه، لمّح قريع إلى إمكان المساومة عليه عندما عرض على الطرف الإسرائيلي، في أحد اللقاءات التفاوضية، تبادل منطقة في حيّ الشيخ جراح بأرض «متكافئة» داخل أراضي 1948 المحتلة، فما كان من وزيرة الخارجية الإسرائيلية في حينها، تسيبي ليفني، إلا أن ربطت تحقيق هذا الشرط بمدى التطور الحاصل على الأرض.
ووفقاً لعريقات أيضاً، فإنه في مقابل العروض الفلسطينية، رفض الإسرائيليون مناقشة مصير القدس التي تصرّ تل أبيب على أن تبقى خارج دائرة التفاوض، رغم أنه، في اجتماع آخر له بتاريخ 15 كانون الثاني 2010 مع نائب ميتشل، ديفيد هيل، شدّد عريقات على أن «ما في تلك الورقة يمنحهم أكبر يوراشاليم (القدس) في التاريخ اليهودي، وعودة عدد رمزي من اللاجئين ودولة (فلسطينية) منزوعة السلاح... ماذا يمكنني أن أعطي أكثر من ذلك؟».
عرضٌ فلسطيني «مغرٍ» رفضته إسرائيل، ممثلة بليفني، وذلك في لقاء بتاريخ 15 حزيران 2008 مع قريع، حضرته وزيرة الخارجية الأميركية في حينها كوندوليزا رايس، وفيه قالت ليفني «أخبرنا الفلسطينيين بأننا لن نعوّضهم عن أي أرض هي جزء من إسرائيل»، قاصدة بذلك القدس الشرقية التي كانت تل أبيب قد أعلنت ضمها إلى السيادة الإسرائيلية.
وفي اجتماعات أخرى، أصرّت ليفني على أن القدس «هي العاصمة الموحدة وغير المقسَّمة لإسرائيل والشعب اليهودي منذ 3007 سنوات»، وهو ما كان يثير احتجاجاً من قبل المفاوضين الفلسطينيين.
وتُعدّ هذه المرة الأولى التي يظهر فيها التراجع الفلسطيني عن التمسك بالحيّ الأرمني للقدس المحتلة إذا ما قُورن هذا الموقف بما تسرّب عن الرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات في كامب ديفيد.
وتوضح محاضر اجتماعات أخرى حصلت في مقر وزارة الخارجية الأميركية، أنّ عريقات كان مستعداً للتخلي عن الحرم الشريف، وإخضاعه للجنة دولية في مقابل السيادة على مساحات أكبر من المدينة القديمة في القدس. ففي اجتماع بتاريخ 13 تشرين الأول 2009 مع عريقات، قال مبعوث الأمم المتحدة لعملية السلام روبرت سيري إنه التقى في القدس رئيس حكومة تسيير الأعمال الفلسطينية سلام فياض، لافتاً إلى أن الشيء الوحيد الذي نحن بحاجة إليه هو «إيجاد حل مشرف لعائلات الشيخ جراح، بإعطائهم مبلغاً من المال لاستئجار مساكن جديدة في المنطقة نفسها، أي في القدس». وكشف أنه تحدث بشأن ذلك مع الأردنيين، عندها ردّ عليه عريقات بأن سلام فياض «هو من يجب أن يدفع تلك الأموال للعائلات، لا أنتم ولا الأردنيون». فأجابه سيري «طبعاً».
وبرّر عريقات تمسك سلطته بجزء يسير من القدس على قاعدة أنه «إذا غضضنا الطرف عن مثل تلك التسوية، فستكون لذلك عواقب وخيمة على وجود السلطة الفلسطينية والقيادة الفلسطينية».
وبشأن المستوطنات التي ستبقى في الضفة الغربية المحتلة، اقترح عريقات، في اجتماع حضره إلى جانب قريع مع ليفني في الرابع من أيار 2008، أن يكون المستوطنون اليهود «مواطنين كاملي الحقوق في فلسطين»، مشبّهاً وضعهم إذ ذاك داخل الدولة الفلسطينية المفترضة بوضعية «العرب الإسرائيليين» داخل إسرائيل. وفي الجلسة نفسها، طالب قريع بخضوع «أي مستوطن يريد أن يعيش تحت السيادة الفلسطينية للقانون الفلسطيني».
وفي اجتماع ثلاثي أميركي ـــ إسرائيلي ـــ فلسطيني بتاريخ 15 حزيران 2008، استحسن قريع فكرة أن «تبقى (مستوطنة) معاليه أدوميم تحت السيادة الفلسطينية، ويمكن أن تكون أنموذجاً للتعاون والتعايش».
لكن ليفني رفضت تلك الاقتراحات، مجيبة المفاوضين الفلسطينيين: «كيف لي أن أوفر الأمن لإسرائيليين يعيشون في فلسطين؟ سيقتلونهم في اليوم التالي».
وتعهّد الموقع الإلكتروني لـ«الجزيرة» بأن ينشر في الأيام المقبلة وثائق ومعلومات عن اللاجئين والتنسيق الأمني بين السلطة الفلسطينية وإسرائيل، ثم الأسرار المرتبطة بعدوان «الرصاص المصهور» ضد غزة قبل عامين، وتأجيل تقرير «غولدستون» وشؤوناً أخرى متصلة.
(الجزيرة، الأخبار)