تبحث عن الموقف التركي الرسمي إزاء ما يحصل في مصر، وقبلها ما طرأ على تونس، فلا تجد إلا الصمت المطبق الذي كسرته دعوة عامة لا تسمن ولا تغني من جوع، وجّهها وزير الخارجية أحمد داوود أوغلو إلى الحكومات العربية لـ«الاستماع إلى مطالب شعوبها وتحقيق مطالبهم». تتصل بالمقربين من المسؤولين الأتراك
، فيبقى الجواب واحداً: إنه شأن داخلي مصري ولا تعليق لدينا إلا تمنّي الأفضل لمصر عموماً. عندها، لا يعود أمامك سوى البحث في ما تيسّر من صحف تركية لديها نسخة إنكليزية على الإنترنت، والتواصل مع صحافيين وناشطين ومثقفين أتراك لمحاولة استيضاح الصورة. فجأةً، يأتي الخبر من الفضائيات العربية: تظاهرات إسلامية ويسارية أمام مسجد الفاتح في اسطنبول ومقرّ السفارة المصرية في أنقرة، دعماً للمنتفضين المصريين. عندها تصبح واثقاً من رواية الأصدقاء الأتراك: لا شيء اسمه «مجتمع تركي»، بل مجتمعات تركية. هناك فئة اجتماعية واسعة غير مسيَّسة، غالباً ما تُصَنَّف في خانة الفئات الدنيا، وهي غير معنيّة كثيراً بما يحصل خارج حدود الأراضي التركية. في المقابل، هناك الفئات الشعبية الموالية للخط الحكومي العام. ولأنّ الحذر التركي الرسمي في التعليق على التطورات المصرية واضح، فإنّ هذا الطرف لا يتحرّك رغم حقده الضمني على النظام المصري، إذ إن المثقفين والمسيَّسين ضمن هذه الفئة يعرفون أن الموقف التركي الرسمي الإيجابي إزاء حكم حسني مبارك، لا يعدو كونه براغماتية وكلاماً سياسيّاً لا يعبّر عن حقيقة مشاعر رئيس الحكومة رجب طيب أردوغان ورفاقه تجاه دولة عربية تنام وتصحو وهي تحثّ قومها على انتقاد «تدخُّل تركيا» في الشؤون العربية، فلسطين ولبنان نموذجاً. لذلك، عبثاً يحاول المراقب البحث في صحف موالية كـ«زمان» و«توداي زمان» و«ستار» و«يني شفق»، إذ لن يجد فيها إلا بعض مقالات الرأي المتحمّسة للشعب المصري.
غير أنّ الأتراك الذين يتحركون في الشارع أو يكتبون مسرورين لما يحصل في مصر، هم فئتان: الأولى تضمّ الليبراليّين، الكماليين أو غير الكماليين، أم يساريين. الكماليون عبّر عنهم حزبا المعارضة «الشعب الجمهوري» و«الحركة القومية»، اللذان استفادا من الحدث المصري ليحذّر قادتهم حكومة أردوغان من «مصير مشابه»، على قاعدة أن «الحكم الديكتاتوري» لـ«العدالة والتنمية» هو صورة تركيّة للديكتاتورية العربية، وبالتالي فإنّ سقوطها في القاهرة وتونس أو عمان وصنعاء، سيشجّع المواطنين الأتراك على الاحتذاء بالجماهير العربية وإسقاط «الحكم التركي المتسلِّط». كلام خرج في الإعلام على لسان قادة الحزبَين المذكورين وفي بعض الصحف المعارضة جداً مثل «حرييت» و«صباح».
أمّا الفئة الثانية المتحمسة للتغيير المصري، فهي تجمع الإسلاميين غير المنظَّمين في حزب بالضرورة، لكن الحريصين على التخلُّص من «حُكم جائر يظلم نحو 80 مليون مسلم في أهمّ الدول العربية»، وحكم «عميل للإسرائيليين يخنق الفلسطينيين» في غزة. هؤلاء هم الذين نزلوا إلى الشوارع، أمس، دعماً للحراك المصري. وأبرز مَن يعبّر عن هؤلاء صحيفة «أقسام» ذات الميول الإسلامية، و«منظمة الإغاثة التركية»، صاحبة الدعوة إلى تظاهرات أمس في تركيا، وهي الجهة المنظِّمة لـ«أسطول الحرية».وعلى يسار هؤلاء جميعاً، يبرز يساريّو تركيا وليبراليّوها، الذين غالباً ما يعبّرون عن أنفسهم على شاشات التلفزيون وفي صفحات جريدة «طرف». ويجمع بين هؤلاء شعار واحد مفاده أنّ أي سقوط لأي نظام متسلِّط، هو خطوة متقدمة لتحسين ظروف عيش جميع شعوب دول المنطقة وحرّيتها.
أما عن الصمت التركي الرسمي، فإنه، بحسب إجماع أتراك معنيين بالسياسة الخارجية التركية وبملفات الشرق الأوسط، سيبقى مترقّباً لكل التطورات، من دون دعم المتظاهرين، ولا تأييد استمرار نظام مبارك. ولهذا اللاموقف، اعتبارات كثيرة؛
ــ عدم وضوح الصورة بالنسبة إلى حكام أنقرة حيال ما ستؤول إليه الانتفاضة الشعبية المصرية، وخصوصاً مع غياب أي بديل حاضر لتولّي الحكم بدل نظام مبارك حالياً. وتذهب بعض الآراء القريبة من مراكز القرار في أنقرة إلى أنّ تركيا تفضّل بقاء الوضع على ما هو عليه في مصر إذا كان البديل «الفوضى أو الإسلام».
ــ التماشي مع المبدأ المسيِّر للدبلوماسية التركية في ما يتعلق بالأنظمة العربية في إطار تفادي تغيير كبير للأوضاع القائمة كي لا يسبب ذلك هزّة أمنية على صعيد المنطقة، ستكون إحدى نتائجها، لا شكّ، تعكير مشاريع تركيا في قيادة المنطقة.
ــ تفادي اشتباك، أنقرة بغنى عنه، مع القاهرة، وخصوصاً في ضوء العدائية المصرية الظاهرة إزاء كل ما تحاول تركيا القيام به، على أساس أنه «محاولة أجنبية (تركية ـــــ إيرانية) للسيطرة على المنطقة، للحلول مكان الزعامات العربية التقليدية السنية فيها»، بما يُفهَم منه السعودية ومصر طبعاً. وهنا، لا بدّ من استذكار الموقف المصري الشرس ضدّ تركيا حين حاولت الأخيرة الدخول على خطّ المصالحة الفلسطينية بين حركتي «فتح» و«حماس» قبل نحو عام.