لم يفهم أحد، لا ضباط الكنيسة ولا جهابذة الأمن ولا المواطنون، ما حصل في ذلك اليوم (2 كانون الثاني 2011). للمرة الأولى منذ أكثر من 70 عاماً يقرر بعض الشبان الأقباط القاطنين في منطقة شبرا التلاقي للاعتراض على جريمة كنيسة القديسين (في الإسكندرية) قبالة إحدى الكنائس في حيهم، خارجها لا داخلها كما جرت العادة في الاحتجاجات المماثلة. وفي غفلة من الجميع، بدأت التجمعات الصغيرة تكبر مع انضمام غير المسيحيين إليها، بحكم وجودها خارج أسوار الكنيسة، وآخرين ممن يتلاقون مع مضمون الاعتراض أكثر من شكله، سواء كان مسيحياً أو إسلامياً. وسرعان ما كبرت الاحتجاجات أكثر مع انضمام أعمار مختلفة إلى المعترضين، الأمر الذي اضطر رجال الدين المسيحيين إلى التدخل بقوة، فتحولت منابر الكنائس إلى منصات لانتقاد المتظاهرين، وحلت التهدئة على القناتين القبطيتين محل التعبئة، ونزل الجيش الأسود إلى الطريق لحث أهالي دويلتهم المفترضة على العودة إليها: مرة يقولون إن الاعتصام في الشارع يسيء إلى صورة المسيحيين الحضارية، ومرة يركزون على قدرة قيادة الكنيسة على تحقيق جميع مطالب شعبها، ومرات يخوفون المتظاهرين من المدسوسين ويحاولون إقناعهم بأن هناك قوى سياسية تستغلهم من دون معرفتهم. في المقابل، حافظ «غضب الأهالي» على عظمته، إلى أن قرر الجميع العودة إلى منازلهم، ولا سيما أن من بادر بالنزول إلى الشارع تصرف بما يشبه العفوية ولم يضع خطة للانتقال بمن سيلحق به من حركة اعتراضية إلى حركة مطلبية. لكن على هامش تلك التجربة، تبين للناشطين السياسيين الذي وصفوا بالمندسين إثر مشاركتهم بها، أربعة أمور أساسية:
1 ـــــ جهوزية المجتمع للسير بتظاهرة أياً كان الداعي إليها.
2 ـــــ تجاوز الحساسيات المذهبية في أكثر الأحياء فقراً. ففي مجتمع بلغ من التعبئة المذهبية ما بلغه المجتمع المصري، لم يكن أحد يحلم بسير المسلمين خلف الصليب في تظاهرة ذات طابع قبطي.
2 ـــــ وجود استعداد لدى المواطنين لشتم السلطة القائمة بشخص رئيسها حسني مبارك. فبعدما كان يصعب إيجاد مواطن واحد يجرؤ على انتقاد النظام المصري أمام الكاميرا، بدأ المتظاهرون قبل أربعة أسابيع بالتباري في قدح مبارك وذمه.
3 ـــــ استنفار الأجهزة الأمنية لتوقيف أبرز المشاركين المسلمين في المسيرات القبطية بحجة الاشتباه بنياتهم السيئة تجاه أخوتهم في الوطن.
لكن الأهم بالنسبة إلى معظم المتابعين، كان خروج الأقباط من الكنيسة، الأمر الذي يُعَدّ إنجازاً بحد نفسه بعد أن رفعت الكنيسة أسوارها عالياً لتطويق رعاياها. ويشرح الباحث كمال موسى في هذا السياق أن العسكر بدأ منذ «ثورة 23 يوليو» (1952)، التي قام بها ضباط جيش مصريون ضد الحكم الملكي، مصادرة المجتمع المدني في مصر. وعمد (العسكر) إلى استبدال التعددية التي كانت تميز المجتمع المصري بالأحادية التي تسللت إلى مختلف القطاعات، في السياسة (حل كل أحزاب ما قبل الثورة) والأمن والاقتصاد والمذاهب. واستكمل هذا الأمر مع الرئيس جمال عبد الناصر الذي إلى جانب اختزاله الدولة بشخصه، عمد إلى اختزال كل مؤسسة في مصر بشخص، على اعتبار أن الكلام مع شخص أسهل منه مع مجموعة. وهكذا، اختصر الأقباط في الدولة الأحادية بالكنيسة التي اختصرت هي الأخرى بشخص البابا.
وفي مواجهة الإقصاء العام، عانى الأقباط أكثر من غيرهم باعتبارهم أقلية. ولاحقاً ازداد الأقباط انعزالاً نتيجة هزيمة 67 ثم انقلاب أنور السادات على نهج عبد الناصر، اللذين دفعا المجتمع صوب التدين، هروباً من مواجهة أسباب الخسارة من جهة ولمقاومة إيديولوجيا اليسار والناصرية من جهة أخرى. وينتهي موسى إلى التأكيد أن «المجتمع المصري ومؤسسات السلطة كانا يطردان الأقباط والكنيسة تستقبلهم وتضبهم. وفي ظل أُحادية الكنيسة بوصفها ممثلاً للأقباط لدى المراجع الرسمية وتمتع البابا شنودة بجاذبية استثنائية، اختفت الأحزاب وقوى المجتمع المدني، وباتت الكنيسة هي الملاذ لمعظم الأقباط». وتشرح إحدى الناشطات المصريات في المجتمع المدني أن «الكنيسة القبطية لم تعد مجرد مكان للصلاة، فهي تحولت في العقدين الماضيين إلى منتدى للقاءات الاجتماعية، يقصد المنتمون إليها مستشفاها بدل المستشفى الرسمي البائس ومدرستها بدل المدرسة الرسمية المهترئة، وفيها الأفلام والسهرات والرحلات. مع الأخذ في الاعتبار أن الكنيسة فرحت بهروب الأقباط من دولتهم إليها، الأمر الذي مكنها من الموازنة بين قيادتها السياسية وقيادتها الدينية، وبالتالي تعزيز نفوذها في السلطة».
من هنا تأتي أهمية الكلام على خروج الأقباط مطلع الشهر الماضي من الكنيسة وتمردهم على مرجعياتهم الروحية وتمنعهم عن إحناء رؤوسهم في القضايا السياسية طاعة لرسل البابا شنودة. وبحسب الشهادات، هناك مجموعتان: الأولى، ممن خرج من الكنيسة إلى الشارع ليعلن فقدانه الثقة بقدرة الكنيسة على حماية ما بقي من الوجود القبطي في مصر. وقد تحرك هؤلاء في 6 يناير بعفوية تشبه من سبقهم إلى التحرك في 6 أبريل.
الثانية، خرجت إلى الشارع لتؤكد أن الكنيسة مهما بلغت في تقديماتها ليست بديلاً للوطن. ورغم الجهد المشترك بين السلطة المصرية والقيادة الكنسية القبطية لتعرية الحركة الشعبية من مضمونها وتشويه أهدافها عبر تسريب سيناريوات عن نيات قبطية بإنشاء دويلة قبطية مستقلة في مصر، أتى خطاب المجموعة الثانية ليؤكد رفض منطق الكوتا أو الانعزال في جزر من لون طائفي واحد ويرفع مطلباً واحداً هو تحقيق المواطنية في دولة مدنية.
وبموازاة إيصالهم رسالة واضحة إلى الكنيسة بضرورة عودتها إلى الدعوة والرعاية وإفساح المجال لهم لانتزاع حقوقهم كاملة كمواطنين مصريين، كانت اللافتات ترتفع في شارع تلو آخر، تقول إن الحقوق لا تُوهب ولا تمنح كهبة من الأكثرية.



شنودة يدعم مبارك

إثر انطلاق تظاهرات الاحتجاج على أوضاع الأقباط في مصر، آثر البابا شنودة مراقبة المسيرات من بعيد، دون تدخل مباشر، آخذاً في الاعتبار إمكان استفزازه لأبناء طائفته إذا طلب منهم الهدوء في فورة غضبهم. وانتظر التوقيت المناسب ليطلب بطريقة لطيفة من هؤلاء العودة إلى منازلهم، في ظل وجهة نظر تقول إن قيادة الكنيسة القبطية سهلت، من تحت الطاولة، نشوء الحركة الاعتراضية لتحقيق بعض المكاسب من السلطة التي هرعت إلى البطريركية تطلب تدخل البابا لتهدئة الغاضبين.
أول من أمس، مرة أخرى، قدم البابا شنودة خدمة للرئيس حسني مبارك من خلال إعلامه التلفزيون المصري الرسمي باتصاله بالرئيس و«قلنا له كلنا معه والشعب معه ليحفظه الله مصر». وأضاف: «آلمني ما شهدته من تجاوزات خلال الأيام الماضية، وننتظر عودة الآلاف من الشوارع والمدن. فكلنا بانتظار مستقبل أفضل». وأعرب شنودة عن استعداده للتعاون مع الأزهر «بيد واحدة للمساعدة على حفظ الأمن والاستقرار ودوام صحة الناس في البلاد». وأشاد البابا بالقوات المسلحة التي «قامت بعمل قوي في حماية المواطنين والقبض على الخارجين عن القانون»، شاكراً «القوات المسلحة والشباب الذين ساعدوهم على أداء مهماتهم».