الاسكندريّة ــ قدّم حيّ أبو سليمان بالاسكندريّة ضريبة الثورة بدم شبابه، بعدما فقد أكثر من عشرين شهيداً في ريعان شبابهم برصاص ضباط شرطة قسم ثان الرمل، شرق الاسكندرية خلال تظاهرات جمعة الغضب.أمهات ثكلى، وزوجات رُمّلت، وإخوة فقدوا إخوانهم في 28 كانون الثاني. بعضهم لم يخرج للتظاهر أو الاحتجاج، وإنما قادته الأقدار للمرور من أمام القسم، الذي انهمرت منه الأعيرة النارية عشوائياً، أو الذهاب لجلب أحد ذويه. آخرون خرجوا لنجدة المصابين ليتحولوا إلى شهداء ساحة المعركة غير المتكافئة بين الأسلحة النارية والحجارة.
لا يكاد بيت أو شارع في منطقة أبو سليمان إلا يشير بأصابع الاتهام إلى مدير المباحث بدائرة القسم، وائل الكومي، لقتله أبنائهم، غير متناسين ماضيه في الفساد والرشوة والبلطجة ومصادماته، وتلفيقه الاتهامات للعديد من شباب دائرة القسم طوال سنوات. وتوعّدوه خلال الجنازات، التي خرجت من كل شوارع الحي الشعبي، بالقصاص العادل أمام أرواح شهدائهم.
أكثر المشاهد الدامية هي صورة أميرة، الطالبة بالصف الثاني الثانوي، التي لاقت مصرعها داخل بيتها المواجه لقسم ثان الرمل، عندما حاولت أن تطل عبر النافذة على الأحداث كي تلتقط الصور بهاتفها الجوال؛ وهو الأمر الذي لم يعجب ضباط القسم، فأصدروا عليها حكماً بالإعدام برصاصة في رقبتها، ونفّذوه بلا محاكمة، أو حتى تحذير أو إعطائها فرصة للهرب.
وكانت اللافتة التي رفعها والد أميرة مصدر إلهام وقوة لكل المتظاهرين، خلال الأيام التي خرج فيها أبناء الاسكندرية الى الشوارع، معلنين رفض السيطرة الشرطية الجائرة، ومطالبين بالقصاص العادل من القتلة.
لا تكاد والدة أحمد عامر، ابن العشرين ربيعاً، تلتقط أنفاسها المتقطعة من البكاء ،وهي تروي كيف ذهب فلذة كبدها لنجدة المصابين أمام قسم الرمل ليلاقي مصيره المحتوم برصاص ضباط الشرطة وعساكرها، وتتوقف لحظة في ذهول، مؤكدةً أن ابنها لم يشارك في التظاهرات منكبّاً على دراسته لأنه الابن الوحيد للأسرة.
وتتذكر الأم فقيدها أحمد، الطالب في السنة الثانية بكلية الحقوق، وكيف كان حريصاً على مستقبله من أجل تحقيق حلم الأسرة به، قبل أن تعاود النظر إلى صورة ابنها، وتعيد التفكير في الذكريات الأليمة التي رويت لها، وأنها لم تستطع أن تودعه الوداع الأخير بعد نقله الى العناية المركّزة بأحد المستشفيات ليلقى حتفه فيها.
ويروي حسني، المصاب بطلق مطاطي، كيف لقي خاله صابر فهمي، البالغ من العمر 42 عاماً، مصرعه بعدما حضر الى الساحة الدموية لنجدة ابن أخته وإرجاعه إلى المنزل، قائلاً إن خاله سقط أمام عينيه برصاصتين، إحداهما في ظهره والأخرى في كتفه. ويسرد «هرع خالي الى مكان القسم لمنع الأذى عني»، ولم يكن يتوقع أن يصادفه الموت قدراً بدلاً من الشاب، الذي ذهب بمحض إرادته لمشاركة الجماهير الغاضبة احتجاجاتها التي أعقبت صلاة جمعة الغضب.
ويتوقف حسني لحظات ليتذكر مصير ابنتي خاله، اللتين تُركتا بلا عائل أو مصدر ثابت للدخل، وزوجة خاله الحامل؛ الأسرة التي كان يعيلها مما يكسبه من العمل في أحد صالونات الحلاقة.
ويتحدث الشاب عن مشاركته في التظاهرات، ويعزوها إلى أنه لم يستطع الامتناع عن مشاركة الحشود الراغبة في تغيير الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية نحو الأفضل، ولا سيما أنه أحد المتضررين من مشاكل البطالة وبلطجة الشرطة وفرض سطوتها على المواطنين في حيّه السكني.
وفي أحد محال المنطقة، يروي محمد قصة وفاة أخيه أحمد إبراهيم، 19 عاماً، وكيف تتشابه مع الصور التي شاهدها لمقتل الشيخ أحمد ياسين، رئيس حركة المقاومة الإسلامية. وُجد أحمد مرميّاً أمام قسم الشرطة من دون ملابسه، بعد بتر إصبعين من قدمه. صورة دموية تجسد بامتياز جرائم الحرب. نكّلوا به وقتلوه وعرّوه ورموه لتشهد على جريمتهم الحشود، ولم يستحوا من جريمتهم.
محمود رمضان، لم يتجاوز 23عاماً، كان يكسب قوته من خلال العمل اليومي ليعيل أسرة تضم 9 شقيقات و7 أشقاء ووالد طاعن في السن وأمّ مقعدة. سار بخطوات سريعة لزيارة قريبة له أصيبت في حادث سير، لكنه لم يكن يعلم أنه على موعد مع الموت؛ ظل ينزف حتى الموت بعدما رفضت ثلاثة مستشفيات استقباله، قبل أن يلقى حتفه في المستشفى الرابع.
تبكيه أمه لأنه كان يساعد في الحفاظ على استقرار أسرة تؤول إلى السقوط، في ظل أوضاع اقتصادية صعبة تضرب بالمجتمع كله، فالأخ الأكبر لا يستطيع أن يُعيل أسرته بمرتب أدنى من خط الفقر، ولديه ابنة مريضة تحتاج إلى العلاج.