كان صوت المواطن المصري المقيم في لبنان يختنق من البكاء، وهو يقول للمذيع: صرت أفتخر بأنني مصري. الملعون جعلني أخجل لسنوات طويلة. أذلني في مصر، فحرمني حريتي وكرامتي وحقي في العيش. وأذلني بين أهلي العرب، فحرمني حق الدفاع عن فلسطين. ها أنا الآن أصرخ بأنني مصري.. أنا مصري!قليلة هي الأحداث الحقيقية في تاريخنا المعاصر. وقليلة جداً هي الانتصارات التي عشت لحظة الانفعال فيها. أمس، شعرت بأنني أقفز من مكاني. تذكرت يوم التحرير في الجنوب، وتذكرت يوم هزمت إسرائيل قبل 5 سنوات.
تذكرت أمس جورج إسحق الذي أعياه العمر ولم يتعب من مطاردة الظلاميين في حكم الشرطي الفاسد، وتذكرت عصام العريان الذاهب والعائد من سجن إلى سجن. تذكرت عبد الحليم قنديل، الفدائي الذي قاوم إذلال كلاب عمر سليمان وحبيب العادلي لسنوات، ولم يرضخ، ولم يصمت ولم يتوقف لحظة عن الصراخ: كفاية!
تذكرت أمس كيف بقيت أم أحمد، من خان يونس، تنتظر أسابيع عند المعبر المؤدي إلى قطاع غزة، تنتظر الإذن من رجال الطاغية للعودة إلى أولادها، لتدفن أحدهم الذي قتلته طائرة حلفاء الطاغية. وأدركت كم كان صعباً على أبناء غزة، وعلى أبناء فلسطين، أن يكتموا صوتهم وأنفاسهم خلال 18 يوماً، فلا يقدروا على تحية الثوار في الساحات والميادين، وهم الذين يمثّلون في هذه اللحظة بقية من شعب مصر المقهور. ولو أنني مثل كثيرين في فلسطين والعالم العربي، لكنا نجد في عزمي بشارة، صوتاً صداحاً، يعيد إلى المنطق قيمته، فلا تأخذه لحظة انفعال بعيداً عن المشهد الحقيقي. شعرت بأنه ينوب عن كل فلسطين في حضوره الحقيقي بين الثوار في الميادين. كان عوناً سياسياً، وعوناً ثقافياً، وعوناً أخلاقياً، وعوناً فكرياً في مواجهة لحظات الإحباط التي مرّت مرات ومرات عندما كان الطاغية يحمي كرسيه بدماء أبناء بلده.
شعرت أمس، بأن لي بيتاً في القاهرة سأعود إليه قريباً. وشعرت أكثر بأن الصبية الذين يحتلون الرصيف على طول النيل، لأن لا مكان يبيتون فيه، صار بإمكانهم الركض دونما خوف. لن يسكنوا في قصر الطاغية، ولم تشبع بطونهم بعد، لكنهم يشعرون الآن بأن أمين الشرطة لن يجرؤ على شتمهم وضربهم وسرقة جنيهات جنوها مقابل نكات باعوها للزوار.
لا أعرف إن كان بمقدوري احتضان نوارة نجم، تسجيل صوتها وهي ترد على خطب الطاغية وأزلامه، وكأنها مذياع الملايين الذين ظلوا في الشارع حتى تقوم لحظة الحقيقة. وهي التي كانت تعد الثياب والأغطية للمبيت على باب قصر الطاغية حتى تجبره على الرحيل، مثلها مثل العشرات من الناشطين الذين لم يهزوا عرش الطاغية فقط، بل عروش كل «مناضلي آخر زمن في العوامات»، وكل الأحزاب البالية، والأفكار المتحجرة، والنظم المتخلفة عن العصر، وهي التي أضاءت في قلب كل حر شمعة يمكنه الاستعانة بها للتعرف إلى العالم من جديد.
ثمة سحر لا يمكن أحداً فكه. المدينة المقموعة أفاقت من سبات، وفي لحظة واحدة، غاب شيطان الفتنة الطائفية، وغاب شيطان الأحياء الفقيرة حيث الفوضى وشعور اللاجدوى، وغاب شيطان التفوق الوهمي لأبناء الأحياء الراقية. ثم سحر، لف أعناق السفلة، فكانت الثورة تقوم في بيوتهم، سمعوا أولادهم يصرخون في وجه غيّهم وظلمهم. كانت المدينة تغسل نفسها كل ساعة، تستعد لاستقبال الحبيب المحمول على أكتاف من لون الشمس. وكان سحر له وقعه في نفس كل عربي. وإلا، فهل لأحد أن يفسر لنا كيف حصل أمس، للمرة الأولى منذ عقود، أن توحّد المواطنون من المحيط إلى الخليج، في لحظة الفرحة وتبادل التهنئة.
لكنْ، ثمة رجال وجب إلقاء التحية لهم، وتقبيل جباههم، والانحناء لقاماتهم الكبيرة، أولئك الذين كانوا غذاء الثورة ونيلها، أولئك الذين جمعهم مكان واحد، يليق بأصحابه، ولهم الحق في الافتخار به كل العمر. إنهم أبناء قناة «الجزيرة»، تلك الشاشة الزرقاء التي أمسكت وحدها... مفتاح سحر مصر وأهلها، وصار بمقدورها أن ترسله، دونما لون، إلى حيث يجب أن يكون!