بيروت 1959. «يسمح الزعيم الأول للاجئ الفلسطيني «فلان الفلاني» بالانتقال من وحدته السكنية إلى وحدة أخرى ابتداءً من تاريخ كذا». ورقة صغيرة بحجم كفّ اليد، قد لا يعوّل عليها الكثيرون، إلا أنها بالنسبة إلى لاجئ مدى الحياة لا يمكن التصرف بها إلا بإذن وأمر من الزعيم، أي قائد المنطقة العسكرية في الجنوب، بلغة تلك الأيام.
بيروت 2011. «إذا أراد المستفيد الانتقال من الوحدة السكنية في مخيم نهر البارد، فليتقدم بطلب خطي إلى المدير العام للشؤون السياسية واللاجئين في هذا الإطار، من أجل أن تُصدر المديرية العامة التراخيص اللازمة».
كأنه «الأمر» نفسه، بفاصل من خمسين عاماً. أمران، على تشابههما، ثمة اختلاف يتيم بينهما، هو أن الأمر الثاني لم يصبح إلى الآن رسمياً. ما زال مجرد محاولة.. على الورق.
قبل بضعة أسابيع من العام الماضي، تسربت مسوّدة تختص بمشروع اتفاق بين الدولة اللبنانية وفلسطينيي نهر البارد «حول إدارة الممتلكات السكنية العامة في المخيم» و«وقعت» بين أيدي أطراف فلسطينيين لم يكن لديهم أي فكرة عنها.
المسوّدة التي تشكّ تلك الأطراف بأنها سرّبت إليها عمداً لجسّ النبض، فيها 13 بنداً ومقدمة (سرد) تختصر العلاقة المقترحة بين لبنان واللاجئ. علاقة يتخوف الفلسطينيون من أن تصبح نموذجاً لباقي المخيمات، إذا وافق على صيغتها الطرف الفلسطيني المعني. تنطلق الحكومة من وقائع الدمار الكامل للمخيم، ومن «حيثية» أن «الحكومة ومن ضمن صلاحياتها بما هي المالك الوحيد للوحدات، عينت المديرية العامة للشؤون السياسية واللاجئين التابعة لوزارة الداخلية لإدارة الممتلكات السكنية في المخيم بوصفها السلطة المخولة والمسؤولة لتحديد موقع المخيمات وإصدار تحويلات لتأجير الأراضي أو استملاك وفقاً للمرسوم 4082 (...) فإن الأطراف تتفق على ما يأتي...» لكن لحظة. قبل «ما يأتي»، ما قصة الحكومة «المالك الوحيد للوحدات»؟ فإذا كانت الدولة قد أكّدت ملكيتها لمنازل اللاجئين، تكون قد خالفت مضمون المرسوم الذي تستند إليه. وفي هذا الإطار، يشرح الأمر د. سهيل الناطور، مدير مركز حماية حقوق الإنسان «لم يشر المرسوم 4082 (الصادر عام 2000) إطلاقاً إلى سكن الفلسطينيين، ولا إلى ملكية المنازل لأنها مبنية بمال المجتمع الدولي، لا بمال الدولة».
وما ينص عليه المرسوم «هو فقط صلاحيات مديرية الشؤون السياسية واللاجئين ومهماتها بصفتها مسؤولة عن تسجيل تحرك الفلسطيني بالانتقال من مخيم إلى آخر أولاً، وأن الدولة تمتلك أراضي المخيمات وتحددها ثانياً. لا أكثر ولا أقل».
مع ذلك، «تملكت» الدولة. لا بل إنها انطلقت إلى وضع شروط على سكن اللاجئ في البارد. ولئن كان اللاجئ بحسب المرسوم 296 الصادر عام 2001 ممنوعاً من التملك لكونه لا ينتمي لدولة معترف بها، إلا أن العرف المخيماتي يقضي بتوارث البيوت وتسجيلها «لدى اللجنة الشعبية في المخيم». لكن، على ما يبدو، فأن ما قبل المسوّدة يختلف تماماً عما بعدها، فإذا طبقت، فإن اللاجئ في البارد «يستفيد من الوحدة ليستعملها وعائلته المباشرة مسكناً لهم، على أنه يحق لهم استعمالها ما داموا يحملون هوية لاجئ فلسطيني ويتعهدون باستعمالها للإقامة الخاصة». وهو ما يطرح أزمة فاقدي الأوراق الثبوتية البالغ عددهم نحو 400 شخص في البارد، والفلسطينيين من حاملي الجنسيات الأخرى. تكمل المسودة «لا يحق للمستفيد بيع، توريث، تأجير، نقل، التخلي عن رهنها والتخلص منها بأي شكل من الأشكال من دون الموافقة الخطية الصريحة المسبقة للمديرية العامة للشؤون السياسية واللاجئين».
إذاً، حُصر كل شيء بأمر من المديرية، ما يعني أن «الدولة الآن تملك الأرض قانوناً وتصادر المباني نظرياً»، يقول الناطور، ويستطرد «الدولة تحاول الإمساك بكل مفاصل الواقع الاجتماعي». ثم ينتقل إلى بند «منع التوريث والنقل». يؤمن الرجل باستحالة موافقة الفلسطينيين على هذه الورقة، «في العرف، ترث أسرة المتوفى بيته، من دون ضرورة لدخول الدولة في صيغة الانتقال». أما الآن، فمجرد الإقامة في البيت بعد وفاة «صاحبه»، يحتم على «المقيمين الجدد» الطلب من المديرية.. الحق بالسكن، وبالتالي «قد تتخذ المديرية قراراً يقضي بنقل البيت إلى الأبناء أو بنقل الوحدة إلى مستفيد آخر»، يشير الناطور.
النتيجة: لا استقرار. كل خطوة تحتاج إلى قرار رسمي «وكأنه محاولة لإشعار الناس بقلق سكني، بأنهم مؤقتون»، يقول مسؤول لجنة متابعة إعادة إعمار مخيم نهر البارد مروان عبد العال. أكثر من ذلك، يشير إلى أن «هذه المسألة سياسية، هدفها نقل الإدارة من المخيم الى وزارة الداخلية». لكن، ماذا عن دور الأونروا؟ منظمة التحرير؟ اللجان الشعبية؟ لجنة الحوار اللبناني ـــــ الفلسطيني؟
أولى الإجابات أن هذا الانتقال «يلغي وظيفة المجتمع المحلي الفلسطيني المتمثل باللجان الشعبية في المخيم، عبر نفي أي دور لها وإلحاق الفلسطيني رأساً بالدولة اللبنانية»، حسب ما يقول عبد العال.
استنتاج يؤكده الناطور أيضاً، من خلال التعليق على البند الذي ينص على استعمال الوحدة للسكن فقط. ويفسر هذا الأمر بأن «الدولة كأنها تقول ممنوع الأندية الشبابية وممنوع إسكان الفصائل إلخ»، متابعاً «كأنها محاولة لإفراغ أي دور لممثلي المجتمع المدني الفلسطيني».
إلغاء ينسحب أيضاً على الأونروا من خلال سياسة الإلحاق المباشر ومن خلال التشديد على أن «المستفيد هو المسؤول الأول والأخير عن التقدم والاشتراك وتوصيلات الكهرباء والخدمات العامة». وهذا ما قد يطرح مشكلة مع المانحين، حسب ما يشير الناطور، خصوصاً أن المجتمع الدولي يتعاطى مع الأونروا بما هي جهة دولية تدير شؤون اللاجئين، وليس مع الدولة التي تنصّب نفسها بهذه المسودة «مالكاً للوحدات ومؤجراً نظرياً».
ثمة أمر آخر أكثر خطورة: ماذا لو خُرق الاتفاق؟ حسب المسودة «سيكون للحكومة الحق باتخاذ الإجراءات المناسبة ومن ضمنها إعطاء الوحدة لمستفيد آخر تراه مناسباً». أما ما هو أو من هو المناسب؟ فأمر غير واضح في المسودة. وفي حال إلغاء الاتفاق «لأي سبب كان، من ضمنها ومن دون حدود موت المستفيد دون ورقة قانونية وسوء إدارة الوحدة وخرق القانون وعودة المستفيد إلى فلسطين بعد حصول تسوية أو لإبقائه الوحدة خالية لمدة تتجاوز (...) سنوات متتالية دون إعلام المديرية خطياً عن فترة الغياب في خلال... أشهر بدءاً من تاريخ ترك الوحدة، تعاد الوحدة فوراً إلى الدولة اللبنانية».
ثمة ما «استفزّ» العديد من الفلسطينيين في هذا البند. فهو يذكّرهم بحال أترابهم في القدس المحتلة «عندما تحرم السلطات الإسرائيلية المقدسي من العودة إلى بيته إذا ما غاب عنه 4 سنوات»!
نقطة التقاء «بشعة» ومؤلمة إذا طبقت المسودة وباتت اتفاقاً رسمياً، فسيتحتم على الفلسطيني أن يعيش «هاجس المقيم المياوم»، يختم الناطور. وإذا لم تطبق، فالحال «من بعضه»، على أساس أن «البيت اللي مش ببلدك لا لإلك ولا لولدك».



في ظلّ تجاهل الحكومة اللبنانية للمسوّدة، بحجة عدم علمها بها، يشير سفير دولة فلسطين عبد الله عبد الله إلى أنه «يستحيل مرور هذه المسودة وتطبيقها»، موضحاً أنها «تضرّ لبنان أكثر مما تضر الفلسطينيين، إذ لا يعود للدولة المضيفة حقوق، إذا هي وضعت نفسها في خانة المالك، وبالتالي لا تحق لها مطالبة الأمم المتحدة بتعويضاتها بعد إيجاد الحل للفلسطينيين». ويشير السفير إلى أن من «الأفضل بقاء علاقة لبنان مع اللاجئ بما هي دولة مضيفة وبقاء الأونروا الجهة الدولية المسؤولة، وهذه من مصلحتنا لضمان حقنا بالعودة».