القاهرة| عندما خرجت الجماهير استجابةً لدعوة شباب «الفيسبوك»، تحديداً حركة 6 أبريل ومجموعة «كلّنا خالد سعيد»، كان ذلك مجرد حافز أو الشرارة الأولى للثورة، لكنّ المفاجأة التي لم يتوقعها جهاز الأمن، ولا المتظاهرون أنفسهم، هي في العدد الضخم الذي وصل في بعض الأيام إلى ثمانية ملايين متظاهر، جميعهم كانت بينهم وبين النظام «مظلمة»، حتى أصبح ميدان التحرير أشبه بالمتحف المفتوح للمظلومين في عهد مبارك. وكانت المفاجأة الكبرى في انهيار جهاز الأمن نفسه، كما أن سقوط شهداء أشعل الوضع أكثر، وجعل التظاهرة تطالب برحيل النظام نفسه. القوى التقليدية لم تعلن حتى اللحظات الأخيرة مشاركتها: الإخوان المسلمون، أجّلوا مشاركاتهم حتى يوم 28 كانون الثاني، وكذا «الوفد». وبقية الأحزاب التقليدية شارك منها أشخاص بمفردهم لا كممثلين للأحزاب. بعد نجاح الثورة الشعبية وإعلان دخول النظام في تفاوض مع المتظاهرين، لم يجد أحداً لمفاوضته، لأن من كانوا في ميدان التحرير ليسوا أعضاءً في أحزاب ولا يمثلون سوى أنفسهم، لكنّ ألعاب النظام، التي استمرت حتى اللحظات الأخيرة، فاوضت «الأحزاب» القديمة التي لا تمثّل أحداً.
فى مصر 24 حزباً، من ضمنها 19 حزباً تعرف باسم أحزاب «بير السلّم»، هي مجرد أحزاب أسسها صفوت الشريف، رجل النظام القوي، لإكمال الديكور الديموقراطي أمام العالم. وحسب تصريحات أخيرة لمحمد حسنين هيكل فإن مصر «تفتقد وجوداً حقيقيّاً لأحزاب لديها القدرة على التطور الفعلي وفقاً لتطور الأفكار والمصالح المتطلبة لخدمة المجتمع، بما فيها حزب الوفد»، مؤكداً أن «الأحزاب الحالية ديكور أمام العالم لإثبات تمتع مصر بديموقراطية، وبوجود حياة سياسية حقيقية». وشدد على أنه لن يكون لأي من الأحزاب الحالية دور في إحداث أيّ تغيير في المرحلة الانتقالية المقبلة، مؤكّداً أنّ «الثورة حدثت لوجود فراغ سياسي في الشارع المصري».
وبالفعل، هذه الأحزاب لم تنزل إلى الشارع، بل هي تتلقّى تعليماتها دائماً من ضباط أمن الدولة. هذه الأحزاب لم تشارك في تظاهرة 25 كانون الثاني، بل إن بعضها وصف التظاهرة بأنها «أجندة أميركية تسعى إلى الوقيعة بين أبناء الشعب المصري والخروج على النظام»، حسب تعبير رئيس حزب «الجيل» ناجي الشهابي، كما اعترض عليها رئيس حزب «العدالة الاجتماعية»، محمد عبد العال، باعتبار أن هذه التظاهرات ضد «اللواء حبيب العادلي، وهو أفضل وزير جاء للشرطة لما يحصل عليه السجين في عهده من حقوق، إضافةً إلى حسن المعاملة مع المواطنين داخل أقسام الشرطة».
أحزاب الغيبوبة هذه لن ترى النور مرةً أخرى، تماماً مثل الحزب الوطني، الذي لم يكن احتراق مبانيه، في عدد من المحافظات، سوى إعلان نهاية عصر الحزب الواحد. وقد يحتاج إلى سنوات طويلة من أجل ترميم سمعته السياسية، حتى إنّ بعض الخبثاء أطلق عليه «الحزب الوطني المحظور»، في إشارة إلى ما كانت تقوله وسائل الإعلام الحكومية عن جماعة «الإخوان».
جماعة «الإخوان»، التي كانت أكثر التنظيمات تنظيماً وحضوراً في الشارع المصري، استفادت من الثورة بقدر أيضاً ما ضرّتها، فقد كشفت عن حجم أقل عدداً، كما أن الشباب فيها في حالة تمرد على القيادات العليا، وخصوصاً أنهم شاركوا من دون إذن في التظاهرات. ويبدو أنّ تمرداً سوف يؤدي إلى انشقاق داخل الجماعة التي جلست للمرة الأولى مع نائب رئيس الجمهورية من أجل التفاوض معه، كما أن الإعلام لم يعد يشير إليها باعتبارها جماعة محظورة.
الأحزاب الأخرى، مثل «التجمع» اليساري، الذي بدأت ثورة من داخله لإصلاحه بعد سنوات من سيطرة رفعت السعيد، الذي يعدّه اليساريون رجل «أمن الدولة» في الحزب، أو رجل الحكومة. وهناك تفكير جديّ في أن تؤسّس مجموعة من الشخصيات اليسارية المحترمة حزباً آخر بديلاً، وتترك «التجمع» للسعيد، ولا سيما أنّ من الصعب إحياءه مرةً أخرى. وبالفعل سيبدأ اليوم أول اجتماعات بين عبد الغفار شكر وأبو العز الحريري والدكتور إبراهيم عيسوي ويحيى فكري والدكتور جودة عبد الخالق، وسوف يعلنون اليوم بياناً تأسيسياً للحزب ولائحة مؤقّتة، على أن يجري في الوقت نفسه طرح مبادرة لإعادة بناء أساس ديموقراطية داخل حزب «التجمع» واستعادة دوره كبيت لليسار المصري.
كذلك ستجري مناقشات لضم عدد من حركات الشباب اليساري الناشط إلى الحزب الجديد مثل: الاشتراكيون الثوريون، التجديد الثوري، فضلاً عن حركة «العدالة والحرية»، وهي حركة احتجاجية تضم تيارات يسارية مختلفة، لكن يبدو أنّ الجميع سوف يدرس تكوين «ائتلاف» لقوى اليسار، لا حزب اشتراكي، حيث تحتفظ كل مجموعة بأفكارها الرئيسيّة. وكثير من هذه الحركات كانت فاعلة بقوة في تظاهرات ميدان التحرير.
كما أنّ مستقبل «الوفد» سوف يحدّده الشباب في الفترة المقبلة، وخصوصاً مع محاولات رئيسه القفز بانتهازية شديدة على الثورة، بعدما دعا إلى ضرورة بقاء الرئيس من أجل إجراء التعديلات الدستورية، وهو ما رفضه الشباب.
ويبدو حزب «الجبهة الديموقراطية» من أكثر الأحزاب فاعلية الآن، وخصوصاً أن رئيسه أسامة الغزالي حرب كان أبرز الوجوه التي لم تفارق ميدان التحرير طوال أيام التظاهر، كما يوجد حزب «الغد» المنقسم على ذاته؛ «الغد» الرسمي المعترف به من لجنة الأحزاب التابعة للحكومة برئاسة موسى مصطفى موسى، و«غد» أيمن نور، الناشط في التظاهرات، وهو الحزب الذي خرجت منه مجموعة 6 أبريل، التي تكونت في 2008 بعد تظاهرات المحلة الكبرى، كما كانت من الداعين بقوة إلى تظاهرات التحرير الأخيرة، وتؤيد «6 إبريل» بقوة ترشيح عمرو موسى لرئاسة مصر في الفترة الانتقالية، وخصوصاً بعدما كشف المتحدث الرسمي للجماعة أحمد ماهر عن زيارة عدد من الناشطين لعمرو موسى لإقناعه بالترشح.
أما أحدث الأحزاب التي تناقش تأسيسها، فهو «حزب 25 يناير»، ويضم مجموعة من ناشطي التظاهرة الأخيرة مثل وائل غنيم، وسوف تُعلَن خلال أيام أهداف الحزب ومبادئه وبرامجه وسياساته حتى الوصول إلى الصوره النهائية. كما يجري الآن البحث عن مقر للحزب الجديد، الذي من المتوقع أن يضم مئات الشباب الذين شاركوا في ثورة التحرير. وقد بدأت العديد من الجهات استغلال الثورة وإعلان كيانات وهمية لا أساس لها، مثل «جبهة الدفاع عن ثورة 25 يناير» وغيرها.
وهناك «جبهة دعم الثورة»، التي تضم البرلمان الشعبي والجمعية الوطنية للتغيير (التي تأسست بعد عودة محمد البرادعي، وتضم عدداً من أعضاء حركة كفاية والشخصيات العامة) وائتلاف شباب الثورة، الذي طالب في اجتماعه أول من أمس بنقل السلطة إلى مؤسسات دستورية جديدة على رأسها مجلس رئاسي تمثّل فيه القوات المسلحة بشخصية عسكرية.
الآن سكتت الحناجر عن الهتاف، وبدأت مرحلة العمل الجديّ، وخصوصاً أن وعي الشارع كشف عن رغبة جدية في عودة العمل السياسي، إذ لا يتوقف اثنان للحديث إلّا تكون السياسة محوراً لحديثهم. وهذا أمر جديد في الشارع المصري.