إنه اليوم الأول من انتفاضة «14 شباب» التي دعا إليها «شباب بحريني» ألهمته ثورتا تونس ومصر. يخرج المنتفضون الى الشوارع في القرى والمناطق بأعداد متواضعة. تحاصرهم القوات الأمنية وتسدّ جميع المنافذ إلى نقاط تجمعهم، تقتل وتجرح البعض. تستمر الحالة ساعات بين كرٍّ وفرّ. الأمن يغلق دوار اللؤلؤة، حيث يفترض أن تكون التظاهرة المركزية، كلياً. يبقيه فارغاً من المحتجين.
اليوم الثاني من الانتفاضة: الجيش يرفع الحواجز بعد سقوط قتيلين. الطريق سالكة الى دوار اللؤلؤة. المحتجّون يتحركون بسهولة أكبر. تمتلئ ساحة اللؤلؤة بالمئات، فالآلاف، فعشرات الآلاف. ينصبون الخيم ويفترشون الأرض من أجل اعتصام سلمي مفتوح. الساحة تحتضن قرابة 30 ألف متظاهر مساء الأربعاء. الكلُّ يستعد ليوم الجمعة، موعد التظاهرة المركزية.
إنها قرابة الساعة الثالثة إلّا ربعاً فجراً. المعتصمون نيام يحلمون بيوم الثورة الذي سينتصرون فيه على الحاكم، الذي خدعهم لعقود ثم أوقعهم في وهم الإصلاحات، بينما لا يزالون مواطنين درجة ثانية. تصل إلى من تطوّع لحراسة النيام أنباء عن تقدّم جحافل الجيش باتجاههم. تعلو هتافات التسبيح والصلاة. الجيش يتقدّم على الجسر المقابل للدوار في الليل. يعلم أنّ هدفه في سُبات، يلجأ الى الحيلة وكأنّه في ساحة معركة، كأنّ المعتصمين ليسوا من هذا الوطن. ما هي إلا دقائق حتى تنهال قنابل الشوزن shut gun، والرصاص المطاطي كالمطر على النائمين. يستفيقون هلعين. يعلو صراخ أطفال ونساء. سحابة كثيفة من الدخان تغطّي المنطقة لكثرة ما أُطلق من قنابل ورصاص.
تستمر المجزرة لأكثر من عشر دقائق. قتلى وجرحى بالمئات. الأنباء تتحدث عن مقتل 4 أشخاص وجرح ما يزيد عن المئتين. عُرف من القتلى عيسى عبد الحسن (60 عاماً) وحسين زايد، ومحمود مكي (22 عاماً) وعلي خضير (52 عاماً). تهرع سيارات الإسعافات الى المكان. الجيش يشدّد الحصار ويمنعها من الدخول. أكثر من ثماني ساعات مرّت والإسعافات ممنوعة من الدخول إلى الساحة.
تُنصب حواجز في كل مكان من العاصمة، ويعزّز الأمن انتشاره بالآلاف، فيما تجوب الشارع المحيط بالدوار أكثر من 50 دبابة ومدرّعة عسكرية. إنها الساعات الأولى من الفجر، والحدث خارج التغطية الإعلامية. مجرّد كاميرات شخصية توثّق الهجوم. الإعلام تجاهل الانتفاضة ونذُرها، قبل أن تستدعيه بالقوة دماء القتلى.
التواطؤ مستمرّ. لم يكتف الجيش بمنع سيارات الإسعاف وطواقمها من الدخول لنجدة المصابين. يتواطأ معه المستشفى الحكومي، بحسب ما أكّد مصدر مطلع لـ«الأخبار». فقد رفض المستشفى استقبال المصابين من دون أن يعطي أي تبرير سوى أنه مستشفى السلطة. لم تشفع حالات المصابين المأساوية في إسعافهم.
وبحسب المصدر نفسه، فإن مستشفيين خاصين هما الإرسالية الأميركية والمستشفى الكندي استقبلا الإصابات وتكفّلا علاجها على نفقتهما الخاصة.
وتجمهر الأطباء والمسعفون داخل مستشفى السلمانية، وطالبوا وزير الصحة فيصل الحمر بالسمح لهم باستخدام سيارات الإسعاف للذهاب الى الجرحى خارج المستشفى، لكن الوزير منعهم من ذلك.
وبسبب اشتراك الجزء السلطوي من الجهاز الطبي في العملية، احتشد الأطباء في تظاهرة رفعت شعار فليسقط وزير الصحة. وتحدثت أطباء عن إعلان الوزير استقالته أثناء دخوله مكتب الإدارة في مجمع السلمانية الطبي، لكنه تراجع عن قراره.
ولم يسلم الصحافيون أو الناشطون الحقوقيون أو المسعفون من اعتداءات عناصر الجيش. فأدخل الطبيب صادق العكري الى غرفة العمليات بمستشفى السلمانية. وأُصيب الإداري في جمعية شباب البحرين لحقوق الإنسان ناجي فتيل عندما كان يحاول إسعاف أحد المصابين. وبينما كان صحافي قناة «إي بي سي»، ميغيل ماركيز، يجري اتصالاً بالمحطة كي ينقل إليها الأخبار، صرخ فجأة «لا لا أنا صحافي، سأرحل سأرحل... إنهم يضربونني»، قبل أن ينقطع الاتصال. ثم أوضح لاحقاً أنه تعرض للضرب وانتزعت منه الكاميرا خلال هجوم الفجر، قال «ضُربني سوقيون. إنني الآن في سوق قرب فندقنا الذي لجأ إليه كثيرون».
انتقل المتظاهرون الى لملمة الجراح. وأُعلنت الحاجة الى التبرع بالدماء نتيجة الحالات الحرجة للمصابين، فيما فُقد العشرات، قيل إنهم أكثر من 60 شخصاً، من موقع التظاهرة. ورجحت مصادر أن يكون الجيش قد اعتقلهم واقتادهم إلى جهات مجهولة. كذلك تحدث شهود عن فقدان أطفال كانوا في الساحة، وأذيع النبأ على مواقع «فياسبوك» و«تويتر» للبحث عنهم.
وخرج التلفزيون البحريني لينقل عن الإدارة العامة للمرور أن شارع الملك فيصل مغلق من الجانبين، وكذلك الشوارع الفرعية المؤدية إليه، وكذلك شارع الشيخ عيسى بن سلمان المؤدي الى شارع الشيخ خليفة بن سلمان في اتجاه المنامة.
وبعد ساعات، أعلن المتحدث الرسمي باسم وزارة الداخلية، العميد طارق حسن الحسن، أن «قوات الأمن العام أخلت منطقة دوار اللؤلؤة من المتجمهرين والمعتصمين فيه، وذلك بعد استنفاد كل فرص الحوار معهم، حيث استجاب البعض منهم وغادر بهدوء، بينما رفض آخرون الامتثال للقانون، الأمر الذي استدعى التدخل لتفريقهم». صورة مقلوبة لما جرى حقيقة في الساحة، ووثّقته كاميرا المعتصمين، ونُشر على مواقع «يو تيوب».
بدورها، توعّدت القيادة العامة لقوة دفاع البحرين بأن «قوة الدفاع (أي الجيش) ستتخذ كل الإجراءات اللازمة لبسط الأمن»، وناشد المواطنين «عدم التجمهر في المناطق الحيوية وسط العاصمة». وشدّد على «اتخاذ كل التدابير الصارمة والرادعة لبسط الأمن والنظام العام وتحقيق الاستقرار».
ووصف ناشطون بحرينيون لـ«الأخبار» الوضع في الشارع بأنه مضطرب جداً. وأكّدوا أن «الجيش أغلق معظم المنافذ الى العاصمة، وكذلك أغلقت شركات عدّة». وقال محمد، الذي كان حاضراً وقت هجوم الفجر، إن القنابل والرصاص انهمرت بنحو غير معقول، حيث فوجئ المعتصمون وهم نيام، فيما البعض الآخر كان صاحياً حين وصله نبأ تقدّم عناصر للجيش. وأكّد أن الجيش أخلى الدوار تماماً من المعتصمين.
تبقى حكاية الشهود الأحياء في هذه المجزرة. أولئك الذين أُصيبوا بإعاقات وعاهات دائمة بسبب القنابل المحرّمة دولياً المستخدمة، وهي قنابل الشوزن shutgun المخصصة لاصطياد الطيور وتنشر شظاياها بكثافة عند انفجارها، وهدفها غير محدّد، وبالتالي فإن القانون الدولي يحظر استخدامها، وهكذا تشهد هذه القنابل على الجريمة الإنسانية التي ارتكبها الجيش أمس في ساعات الفجر الأولى ضدّ شعب أعزل.