السويس | البارجتان الحربيتان الإيرانيتان، اللتان عبرتا قناة السويس ورستا في سوريا أمس، كانتا حديث المدينة وأهلها. يقول سيّد، دليلنا السويسي، «على ما يبدو أرادت إيران جسّ نبض القيادة المصرية الجديدة ما بعد حسني مبارك بطلب السماح لهما بالعبور». رغبة عارمة تجتاح كيانك برؤية قناة السويس التي أمّمها الرئيس الراحل جمال عبد الناصر في خطاب وشم الوعي المصري والعربي. الأوضاع هنا في المدينة التي أعطت «ثورة النيل» شهيدها الأول، وهو مصطفى رجب (22 عاماً)، وشهيدها الأخير، إسلام علي محمد (31 عاماً)، ليست مستتبّة أبداً. قبل وصولنا بقليل، صباح الاثنين، كانت هناك اشتباكات نارية بين الأهالي و«تجار المخدرات الذين كانوا يسرحون ويمرحون على هواهم قبل الثورة»، في منطقة تسمّى «المثلث»، بعدما استخدم التجار أسلحة أوتوماتيكية في الاشتباك، فما كان من الأهالي إلا أن استولوا على أسلحة «قسم المثلث»، وردّوا على مصادر النيران. معارك أدّت إلى مصرع أحد كبار هؤلاء التجار واسمه محمد أبو اسكندر. على الفور، بدأ الصحافيون يتوافدون إلى السويس، وخاصة أن المدينة كانت تنظّم احتفالاً بالانتصار ذاك المساء. يعلّق زميل محلّي: «الناس عايزة تنظف السويس بقى. النهارده مش زي امبارح». الأحد الماضي أيضاً، وقعت اشتباكات بين الأهالي و...القوى المسلحة، بعدما دهست دبابة من الجيش سيّدة (اعتماد محمد غنيم) «خطأً»، في تظاهرات كان الجيش يريد إنهاءها، لإعادة عجلة «الحياة الطبيعية» إلى ما كانت عليه. ونية الجيش لا تزال موضع انقسام بين المصريين، خصوصاً أولئك الذين يرون أن مطالبهم لم تنفَّذ بعد، وأنّ ما تغيّر حتى الآن ليس كافياً بتاتاً.
كالأطفال اللجوجين، لا تكفّ عن السؤال وأنت تنظر في كل اتجاه: «أين القنال». تقولها بلهجة الناس هنا، باللام لا بالتاء المربوطة. من اللحظة التي وصلنا فيها المدينة، التي يبدو الإهمال والتعب والإرهاق على وجه شوارعها وأزقّتها، كنت تفتّش عن «المياه»، كأنّما لتغسل عينيك من كل هذا الغبار والتراب والمباني الإسمنتية القبيحة. وإن كانت مصر هبة النيل، فإن السويس «هبة القنال». مدينة بُنيت لعمال القناة التي هندسها فرديناند دو ليسيبس، ثمّ اتّسعت لتضمّ عمال شركات الإسمنت والبترول المزدهرة هنا، والتي رفعت مستوى دخل السوايسة ليكون من الأعلى على صعيد الجمهورية (متوسط 4 آلاف جنيه شهرياً، أي 800 دولار).
يعلّق أحد شباب الثورة: «إحنا ما عملناش ثورة علشان الخبز. عملناها علشان كرامتنا». جنود الجيش منتشرون بنحو هائل. أنت بالقرب من أحد شرايين، لا بل أوردة الاقتصاد المصري. ربع الدخل القومي يأتي من هنا، ما يفسر هذا الانتشار الكثيف للقوّات المسلّحة، من أول معبر «سرابيوم» الذي تنعطف منه إلى السويس إن كنت آتياً من جهة الإسماعيلية: ثكن للجيش، سوبر ماركت لمستلزماتهم. مصالح الجيش. لافتات «الوصايا العشر» للجيش تتعاقب طوال الطريق. لكن في السويس شخصياً؟ أول ما يشدّ عينيك نوع أنيق من «الغرافيتي» على الجدران العامة المهملة المفتقرة لأي نوع من الطلاء. غرافيتي أنيق و«تقليدي». أشعار شعبية مخطوطة بخط جميل. نوع من مواويل تنبئ عن هوية المدينة.
السويس تكره إسرائيل، ولو أنها بالتأكيد لا تحب عمرو موسى. حبيبها جمال عبد الناصر. تشبه السويس، في السياسة، أرملة صعيدية، كان لديها ثأر، وها هي تأخذ به.
السلفيون يحاولون «اللعب» هنا أيضاً. لافتاتهم تقول «لا للمساس بالمادة الثانية من الدستور». «أين القنال». تسأل مرة أخرى. يشير دليلنا بيده: «هذه فيلا (فرديناند) دوليسبس». تكاد تقفز لهذا اللقاء مع التاريخ. تنظر إلى الفيلا المبنيّة بأسلوب معماري كولونيالي (طبعاً). يبدو حجمها متواضعاً نسبة لأهمية مَن كان يسكن فيها، ولكبر فيلات هذه الأيام. حولها تنتشر فيلات مشابهة يسكنها الآن إداريون في القناة المصرية. «شارع 23 يوليو». تسأل الشاب: «هل يصبح اسمه «25 يناير» كما تريد موجة هذه الأيام؟». يرمقك بنظرة «صعيدية» وهو يقول «لأ، ما حدش يمسّ 23 يوليو. آه». يبدو أنني «عكيت» كما يُقال هنا. يأخذنا سيّد إلى النقطة الأضيق من القنال، أي تلك التي ترى منها الضفة الأخرى على بعد عشرات الأمتار فقط. سياج من الشباك الحديدية يمتد على طول الضفة التي نقف عليها، وانتشار للجنود بمعدل جندي كل 50 متراً.
«ممنوع الاقتراب أو التصوير»، كُتب على لافتة عُلِّقَت فوق الشباك التي قال الزميل إنها نُصبت هنا بعد اندلاع أحداث الثورة. الجندي المتأهب ينظر إلينا من خلفها، فيما افترشت عائلات عشب حديقة خلفنا، تحت شجر أشبه بخروب سلعاتا، كما في نزهة خلوية. الأولاد لا يزالون في بيوتهم بعد تمديد تعطيل المدارس أسبوعاً إضافياً من المفترض أن ينتهي الجمعة المقبل.
ثلاثة عناصر ترسم مشهد السويس: عسكر، مصانع، قنال. كل شيء هنا، من الناس إلى المباني إلى الأحاديث وصولاً للنشاطات، يتمحور حول هذه العناصر الثلاثة ويشتق منها. كأنها الألوان الأساسية للوحة المدينة التي لم يطأها الرئيس المخلوع حسني مبارك مرة واحدة في حياته، مثلما تؤكد الرواية التي تتكرر على مسامعك أينما حللت. تقول الرواية إن مبارك، قبل أن يصبح رئيساً للجمهورية، كان في بعثة عسكرية في الولايات المتحدة عام 1976، حيث التقى عرّافة هناك تنبأت له بأنه سيكون له شأن عظيم في بلده، لكن نهايته ستتسبب فيها منطقة اسمها السويس. وتتابع الرواية أن مبارك فعلاً كره السويس وخاف منها لدرجة أنه لم يأتِ إليها ولو مرة واحدة في 30 عاماً من الحكم. حتى إنه ثابر على تعيين محافظين تكرههم المدينة، كالمحافظ السابق سيف الدين جلال، الذي أبقاه نكاية بالسوايسة (أو هكذا هم يظنّون على الأقل) لأحد عشر عاماً. نكاية تفسّر الإهمال الفظيع اللاحق بالمدينة التي تكاد تخلو من إنارة أو رصيف تصح تسميته كذلك، إضافة إلى أكوام القمامة التي ساهمت الأحداث الأخيرة بتراكمها، ولو أن شباب المنطقة يحاولون أن يفعلوا ما يفعله باقي شباب مصر الجديدة من تنظيف الشوارع والعناية بها.
السويس مدينة متروكة لتنمو كما تستطيع لا كما تريد. ولقد بادلت السويس الرئيس السابق كرهاً بكره، فكانت فعلاً نهايته على «يدها»، ليس اغتيالاً، كما ظن هو الذي كان يجلس إلى جانب أنور السادات حين اغتيل، بل بانطلاق أحداث الثورة منها بعد سقوط القتيل الأول منها. ويفسّر العارفون بشؤون أبناء المدينة الآتين بمعظمهم من مناطق الصعيد وبنفسيتهم، حيث تسود عقلية الثأر، أن سقوط القتيل الأول عنى للكثير من المراقبين خروج السويس عن السيطرة. وفعلاً، ما إن «استشهد السويسي الأول حتى قلنا: الثورة مشيت خلاص»، يقول سيّد. ما هي إلا دقائق و«نزل الأهالي ضرب بالشرطة ورجال الأعمال الفاسدين المتواطئين معهم».
لا تزال ندوب حرب الشوارع ظاهرة على المدينة ومعالمها الحكومية: مركز المطافئ، الذي كان يرشّ المتظاهرين بالمياه في ميدان الإسعاف، حيث وقعت الاشتباكات الرئيسة. قسم الشرطة المعروف بقسم «الأربعين»، محترق كلياً. تمرّ نساء بثياب الفلاحات، هنّ عائدات من السوق، بعضهن يحملن أكياس الخضر على رؤوسهن.
وحريق قسم الأربعين ليس الأول. هو بالتحديد الحريق الثاني بعد حرق السوايسة له عام 1973 خلال حرب أكتوبر، حين كان آرييل شارون في داخله. يروي لنا دليلنا سيّد أنه «قبل 24 أكتوبر، الّي أصبح عيد تحرير السويس، تسلل شارون وقوّاته الإسرائيلية من خلال ثغرة في الدفرسوار إلى هذا القسم واحتلّوه وقعدوا فيه، وجعله شارون مقرّاً لقيادته. لكن الأهالي حاصروا القسم وأحرقوه، على أمل حرق شارون وجنوده في داخله. لكنّ الجنرال السفّاح هرب من باب خلفي مع جنوده، وما هي إلا 48 ساعة حتى حُرّرت المدينة». ويضيف: «من هنا جاءت الفكرة للمتظاهرين أن يحرقوا القسم، لأنه رمز للنظام المتحالف مع إسرائيل». هكذا، حاصر السوايسة القسم لمدة 3 أيام منذ 25 يناير، عيد الشرطة، فكان هؤلاء يردّون بإطلاق نار كثيف على الأرجل أولاً، ثم على الرؤوس والصدور، فيما كان المتظاهرون يرمونهم بالحجارة. استمرّت المعركة حتى استطاع شباب الثورة في «جمعة الغضب» في 28 كانون الثاني أن يقتحموه برفقة آلاف الأهالي، وخاصة أن عناصر الشرطة حاولوا أن يدفنوا الشهداء تحت جنح الظلام ومن دون إذن ذويهم، ما أثار جنون الأهالي الذين أجبروهم على التراجع. ثمّ كانت مفاوضات لعدم الدفن الجماعي للشهداء الذين سقطوا في 26 و27 كانون الثاني، إلى أن «تنازلت» الشرطة إلى دفن شهيد واحد كل نصف ساعة. لكن الناس رفضوا رفضاً قاطعاً. باختصار، كان الغضب يهزّ الناس، فما كان منهم إلا أن قبضوا على الضباط المشهورين بالتعذيب والذين أعطوا الأوامر بإطلاق النار على المتظاهرين. ضباط يتصدّرهم رجب غراب، وهو مشهور بالتعذيب هنا وفي القاهرة، إضافة إلى زميله أحمد البهي، وهو رئيس مباحث المنطقة. تسأل عمّ حصل لهما؟ يجيبك الدليل بنوع من خجل وهو يبتسم «هو للأسف يمكن ما كانش لازم يعملوا كده، بس همّ قلعوهم ملط (عراة) ومشّوهم كده في الشارع وسحلوهم، لكنهما لم يموتا، فعادوا وسلموهما للجيش. وهما تقريباً دلوقت خارج السويس».
آثار الحرائق لا تزال ظاهرة أيضاً على «الأبراج» السكنية العائدة لشركاء النظام السابق من رجال الأعمال. كره استثنائي لهؤلاء. بعضهم، مثل ابراهيم فرج، يقول الناس إنه تاجر مخدرات أصلاً، وإنه أعار الضابطين السابقين مبانيه العالية ليتمركز قنّاصتهما عليها، وهي الجريمة التي أدّت إلى سقوط 30 شهيداً. يتفاخر الناس هنا: «الإسكندرية 6 ملايين أعطت 34 شهيداً، السويس كل سكانها 700 ألف وأعطت 30 شهيداً».
رجال الأعمال يحاولون مصادرة دم الشهداء: يعرضون على عائلاتهم الغارقة بالفقر مليون جنيه تعويضاً، كي يُسقطوا حقهم الشخصي. «البعض للأسف محتاج ما يقدرش يقول لأ»، تقول والدة الشهيد محمد أحمد محمد يوسف (22 عاماً)، وهي الوحيدة التي اقتحمت المشرحة لترى جثة ابنها. لكنها مع ذلك، رفضت رفضا قاطعاً: «ده لسه دم قلبو سايح بتربتو. دول قتلوه برصاصة فظهرو طلعت من قلبو يا عيني، أقوم أنا أبيعو؟ يزعل يا حبة عيني. أخلّي ابني قلقان في تربتو ومش مستريح؟». تقول ودموعها لا تتوقف عن الجريان. تجلس السيّدة على سرير في غرفة الجلوس ونحن مقابلها. الغرف متناهية الصغر. تقول «أنا كنت خايفة على أخوه، عمرو 16 سنة وكان مختفي بقالو ليلة. بس محمد هوّ الّي استشهد. أنا عايزة دم ابني من مبارك و(وزير الداخلية السابق حبيب) العادلي وابراهيم فرج». يخبرنا محمد عبد النبي أن شباب الثورة حاولوا بدورهم أن يؤمّنوا عائلات الشهداء بمبلغ تبرع به أغنياء الثورة. «أمنّا لكل عيلة 50 ألف جنيه، وشقة حتى لو كان لديه شقة، كما ضغطنا لتعيين معيل العائلة أو من ليس له عمل في العائلة في شركات البترول هنا»، التابعة للحكومة. تتذكر فاعلية المقاومة في حرب تموز وما بعدها. تقول ذلك. تُفاجأ بردّ الفعل «السيد حسن نصر الله؟ إنتي بتقولي إيه؟ ده عمّنا. لقبه هنا عمنا حسن»، ثم يقول: «إنتِ لاحظتِ كم مرة ذكر السويس في خطابه الأخير؟ 4 مرات، ولو فاكرة لما مسكو سامي شهاب، السويس هيّه المحافظة الوحيدة الّي تظاهرت». يضحك الدليل سيّد لملامحي الدهشة «دي محافظة مختلفة. هنا عندك منظمة أبطال سيناء، حزب الله درس تجربتنا في الحرب الشعبية وحرب الشوارع». ثم يقول «ده حتى تلفزيون المستقبل اتصل بينا عشان يعمل حاجة، قلنالو مش مرحب بيك!».
ثم يضيف «الثوار هنا هدّدوا أنه ستُضرب أي باخرة أميركية أو أوروبية لو كانت أوروبا وأميركا حيبقوا مساندين لنظام مبارك العميل». أين أنا؟ في جبشيت؟ لكن، ماذا بعد، وما هي الخطة اليوم بعد الثورة؟ يجيبونك: «نريد حكومات قومية، لأن الفكرة أن نوقع إسرائيل. يعني بعد ما نوقع ليبيا، وكل المطبعين معاها، بالنهاية عندنا هدف قومي. يبقى حنتفرّغ لعدو واحد: إسرائيل». لكن، هل هذا واقعي يا شباب؟ يقول لك أحدهم «أمّال إيه؟ هي دي ثورة ولّا تهريج؟».
في طريق العودة، تحاول قراءة بعض ما كتب على الجدران. تقرأ الغرافيتي الغزيّة على الجدران. أحدها يقول بلهجة المواويل: «عطشان يا رفاقة للثأر من إسرائيل».



من أكتوبر إلى يناير


يؤكد الصحافي أحمد عبد الجواد، وهو غير بطل ثلاثية نجيب محفوظ «سي السيّد»، ما يقوله أهل بلده. الرجل الذي يسكن في القاهرة، والذي أتى اليوم كالعديد من الصحافيين ومراسلي التلفزيونات للمشاركة وتغطية حفل هذا المساء في حديقة «الحصيرة»، ساحة أبطال المقاومة الشعبية، يقول إن لقناة السويس شقّاً سياسياً «غير الشقّ المعيشي. نحن الشعب السويسي نرفض تماماً وجود إسرائيل، وهذا يعود إلى تاريخ البلد. لولا صمود أهل السويس لما اكتملت معركة حرب أكتوبر في 73، وتحقق النصر». ويضيف: «الهجوم على مصر بدأ أصلاً من السويس، نسبة الدمار لو تعودين إلى وثائق تلك المرحلة المتلفزة، كانت تبلغ مئة في المئة. وإسرائيل اختارت ضرب السويس لأنها تساهم في ثلث (وليس ربع؟) الدخل القومي. لديك هنا شركات البترول، المنطقة الصناعية، الميناء التي تربط مصر بالقرن الأفريقي ربطاً كاملاً. ورغم مساهمة السويس اقتصادياً في البلد، فإنها أكثر محافظة تعرَّضت للإهمال الكيدي انتقاماً من موقعها المعارض للحزب الوطني الذي كان حاكماً، بناءً على رفضها التطبيع».