استدار العقيد معمر القذافي مرةً أخرى نحو القارة السمراء، لكن هذه المرة ليس لتفجير جنون العظمة وشغف السلطة، اللذين بلغا حدّ تنصيب نفسه «ملك الملوك»، بل كي يستقدم مرتزقة لذبح شعبه. وهؤلاء بطبيعة الحال ليس لديهم عقيدة أو انتماء، يعملون وفق منطق السوق السوداء، وتحرّكهم شهوة المال ويتخذون من القتل سبيلاً للعيش. استقدمهم من القارة التي عمل على مدى سنوات خلت على شراء النفوذ داخلها بأمواله النفطية بهدف تشييد مملكة يتربّع على عرشها. وقد تحدثت مصادر متعددّة عن استخدام العقيد القذافي المرتزقة الأفارقة لمقاتلة الأهالي، وذلك ما دفع ببعض قوات الجيش الى الانشقاق والانضمام الى المحتجّين. وقال السفير الليبي لدى الهند علي العيساوي إن «المرتزقة من أفريقيا ويتحدثون الفرنسية ولغات أخرى».
وروى الأهالي وضباط انشقوا عن صفوف الجيش أن المرتزقة دمّروا المباني وأتلفوا خطوط أنابيب النفط وسمّموا المياه. كما تحدث مصريون عائدون من ليبيا عن المرتزقة الذين ذبحوا العشرات من مواطنيهم باستخدام السيف في منطقة البريقة في الجنوب. وتدفق هؤلاء المرتزقة بكثرة عبر مطار معيتيقة شرقي طرابلس. أما الجهات التي يأتي منها هؤلاء المرتزقة، فهي متنوعة. وتحدثت تقارير عن وضع إعلانات في غينيا ونيجيريا تطلب مرتزقة للقتال في ليبيا مقابل 2000 دولار لليوم الواحد.
ويبدو أن الوقت قد حان لحركات التمرد الأفريقية كي ترد الجميل لمعمر القذافي، بعدما مدّها بالعتاد والسلاح والأموال على مدى سنوات. وقيل إن الأفارقة السودانيين جزء أساسي من مرتزقة العقيد، ولا سيما حركة خليل إبراهيم، العدل والمساواة السودانية المتمردة في دارفور، التي ينشط أفرادها داخل الأراضي الليبية بدعم من العقيد.
وقد دعم القذافي دعماً متواصلاً حركات التمرد في السودان من الجيش الشعبي الى حركات دارفور، وكان يسميهم الثوار منذ أول حركة تمرّد في دارفور بقيادة مناوي. وهو أغرق الإقليم بالسلاح عبر الحدود الليبية السودانية وتحت غطاء عدد من المشاريع منها «مشروع ساق النعام». كما مدّ حركة «غارانغ» (الحركة الشعبية لتحرير السودان) بالمال والسلاح.
وكانت القارة السمراء بالنسبة إلى القذافي الفضاء الذي عبّر فيه عن نزوات عظمته. فجّر هذا الجنون بدايةً على المسرح العربي، لكن عندما يئس استدار نحو أفريقيا عبر «الاتحاد الأفريقي» الذي دُشّن فعلياً في 2002 في دوربن ـــــ جنوب أفريقيا، بعد عامين من إعلانه. ويضم الاتحاد 53 عضواً.
عندها أطلق القذافي العنان لمشاريعه. ثبّت أقدامه داخل أفريقيا من خلال دعم حركات التمرد واللعب على تناقضات القارة العابقة بالأزمات الحدودية والداخلية والعرقية والقبلية والطائفية، ومن خلال إطلاق المشاريع الاستثمارية بمليارات الدولارات.
وفي عام 2006، أُسّست محفظة ليبيا أفريقيا برأسمال 5 مليارات دولار، وفي 2010 ارتفعت الى 6 مليارات و45 مليون دولار، هي قيمة الأصول المالية لعدد من الشركات منها «أوبليبيا» والخطوط الجوية الأفريقية والشبكة الخضراء والشركة العربية الليبية للاسثمارات الأفريقية. ونُفذت مجموعة من المشاريع في مناطق مختلفة من القارة، بينها مشروع التنمية في غرب أفريقيا وتعدين الوكسيت وتوليد الطاقة الهيدروكهربائية في الكونغو وغينيا بيساو، وتوليد الطاقة الغازية في غينيا بيساو، ومشاريع السكك الحديدية في غينيا ومالي والسودان، ومحطات تكرير النفط في غرب أفريقيا، وإنتاج الإسمنت في مالي، إضافةً الى مشاريع زراعية في موزامبيق ومالي وغيرهما.
أما أكبر المشاريع، فكانت في مجال الاتصالات عبر شراء 60 في المئة من أسهم شركة «راسكوم»، التي تهدف الى إنشاء شبكة اتصالات تربط أكثر من 130 ألف قرية ومدينة أفريقية.
هذا اقتصادياً، أما سياسياً، فقد اقترح الزعيم الليبي مشروع توحيد القارة، وإنشاء الولايات المتحدة الأفريقية، على غرار الولايات المتحدة الأميركية، والاتحاد الأوروبي. ومن دون الأخذ بعين الاعتبار أوضاع القارة المتخبّطة في نزاعاتها، التي ترزح تحت عبء مستعمرين جدد، هم عمالقة المال والاقتصاد المتعدّدي الجنسيات. وتقرر خلال قمة 2007 في آكرا ـــــ غانا إنشاء حكومة الاتحاد الأفريقي. وبفضل أمواله النفطية التي أنفقها ببذخ داخل أفريقيا، استطاع القذافي استمالة الدول الأفريقية وتنصيب نفسه «ملك الملوك» في 2008.
ثم انتخب رئيساً للاتحاد الأفريقي خلال قمة 2009، خلفاً للرئيس التنزاني جاكايا كيكويتي، فوجد في الرئاسة إرضاءً لشغفه في اعتلاء العروش، لكن لهذا الامتياز فترة زمنية لا تتجاوز العام، فالقمة ليست ليبيا كي يتربع على عرشها مدى الحياة. قاوم في البداية، وأرسل رسله الى غرب أفريقيا كي يضغط على الدول لبقائه لولاية ثانية، لكنّ دولاً مثل جنوب أفريقيا وإثيوبيا وكينيا تصدّت له.
ورغم ذلك بقي القذافي يرى في أفريقيا امتداداً له، وهو ما عبّر عنه في خطابه الأخير، حين تحدّث عن «الزحف الأفريقي»، وهو ما بدأه بالمال وكردّ للجميل.