صنعاء| يقدّر الرئيس اليمني علي عبد الله صالح عدد المتظاهرين بحجم الجمهور الذي يراه على شاشة القناة الفضائية اليمنية التي تحرص على نقل صورة الجمهور الخارج في ميدان التحرير. وهو المكان المتوسط بين نقطتين تحولتا إلى محور تحرك صالح؛ القصر الرئاسي حيث يعقد اجتماعاته مع قادة الدولة، وفي صالة الألعاب الكبرى بالمدينة الرياضية، حيث يعقد لقاءاته المتكررة مع زعماء القبائل بغرض تحريضهم تحت ذريعة الدفاع عن الوحدة.
يعكس حجم هذه المساحة المحدودة التي صار الرئيس صالح يتحرك فيها حقيقة الوضعية النفسية التي صار علها، ويجعله محاصراً في بقعة معيّنة، داخل وضع يبدو مشابهاً، بشكل من الأشكال، لحالتي الرئيس التونسي زين العابدين بين علي الذي حُدّدت إقامته في القصر الرئاسي حتى هروبه، والعقيد معمر القذافي، المحاصر في قصره... وهي حالة تعاكس هوايته السابقة المتمثلة في ذهابه المفاجئ إلى حيث يريد، مقار الوزارات الحكومية والمواقع العسكرية ومراكز القيادات.
الرئيس اليمني صار الآن يأتي بهم إليه. وأصبحت الدولة والمعسكرات والوزراء يحضرون إليه، ومن باب التنويع والخروج من دائرة الملل يذهب أحياناً إلى مسافة لا تبعد سوى عشرة كيلومترات تقريباً عن قصره الرئاسي، لمقابلة زعماء القبائل الذين يعيد تذكيرهم بقدرتهم على الدفاع عن أنفسهم. ويُظهر هذا بوضوح كيف أنه رئيس يجيد استعداء بعض مواطنيه على البعض الآخر، فيما يذهب خطيباً في كبار قادة الجيش، ومتحدثاً باسمهم أنه قرر الدفاع عن الوحدة والجمهورية حتى آخر نقطة دم.
لكن المشكلة تكمن في تكرار الخطاب بذات المفردات وسحبه على ما كان يجري في الفترة ما بين 1994 واليوم وكأن لا شيء تغير، مستعيداً المفردات المحمّلة بعبارات التحريض على الطرف الآخر (الذي صار اليوم أطرافاً)، والتخوين والعمالة والطابور الخامس والهجمات المغرضة و«الإعلام الخارجي الذي يريد أن يشوه صورة اليمن».. وأن الوحدة اليمنية «تستحق أن تروى بدماء مليون شهيد».
ولا يبتعد خطاب صالح المفعم بالعنف عن خطاب عُمّم بذات المفردات على مبنى التوجيه المعنوي التابع للقوات المسلحة، برئاسة علي حسن الشاطر، الذي لم يتغير منذ قدوم صالح إلى السلطة، وهو بمثابة المركز الإعلامي التعبوي المناهض لأعداء «الثورة والجمهورية والوحدة»، ومنه تصدّر لغة الخطاب التي ينبغي تعميمها إلى مبنى وزارة الإعلام، وعبرها إلى مختلف وسائل الإعلام الرسمية، من صحف رسمية والفضائية التلفزيونية، التي صارت جميعها تنطق بلسان واحد وبلغة عنف مستوحاة من لهجة الرئيس نفسه، أو لعلها اللهجة التي تظهر جيّداً مكتوبة في افتتاحية صحيفة «الثورة»، التي يحرص صالح على أن تُكتب يومياً لتنطق بحالته النفسية ومدى الانفراج أو الضيق الذي يعيشه.
والملاحظ أنه صار بالإمكان، بطريقة سهلة، قياس مدى الانفراج أو الضيق الذي وصل إليه صالح، وذلك عن طريق حجم التظاهرات التي تخرج ضده، ولا يجد حيالها غير مفاوضة أحزاب اللقاء المشترك من أجل وقفها، مقدماً تنازلات أحادية الجانب، مثلما فعل أمس، عندما اجتمع مع أعضاء جمعية علماء اليمن، وحمّلهم مبادرة لنقلها إلى أحزاب اللقاء المشترك تتضمن سحب مشروع التعديلات الدستورية المنظورة حالياً أمام مجلس النواب، وتأليف حكومة وحدة وطنية لإجراء التعديلات الدستورية بالتوافق، وإحالة الفاسدين إلى القضاء، وسرعة بت قضايا الفساد المنظورة أمام القضاء، وإطلاق كل سجين لم تثبت إدانته أو لم تكن له قضايا منظورة أمام القضاء، في مقابل إيقاف التظاهرات والاعتصامات، وبما يكفل إزالة أعمال الفوضى والتخريب والاحتقان في الشارع ومن كل الأطراف.
إلا أن المبادرة، التي أتت قبل ساعات من «يوم الغضب»، جوبهت برفض أحزاب «اللقاء المشترك»، التي أكدت الإصرار «على رحيل النظام أولاً وبعدها يمكن تأليف حكومة وحدة كما يريدها الشعب، لا كما يريدها النظام».
ويوماً بعد آخر، يكتشف صالح أن اللجوء إلى التنازلات لم يعد مجدياً عندما تأكد له أن هذه التظاهرات، التي تخرج مطالبة برحيله لم تعد تحت سيطرة تلك الأحزاب، بل باتت بيد جمهور من الشباب غير المحكوم بأي خطط حزبية، ولا هدف له غير «إسقاط النظام». لهذا، وجد صالح نفسه مدفوعاً إلى الخروج بخطاب العنف والتهديد، إضافة إلى اختراع أدوات ترهيبية لموظفي الدولة وطلاب المدارس من أجل إخراجهم في تظاهرات حاشدة لتأييد «مبادرته» التي قدمها لأحزاب اللقاء المشترك لمعاودة الحوار، وتنقلها الفضائية اليمنية مباشرة على الهواء، وهو ما أثار سخرية النائب البرلماني عبد العزيز جباري، أحد الذين قدّموا استقالتهم من الحزب الحاكم، إذ قال «نحن البلد الوحيد في العالم الذي تخرج فيه السلطة في تظاهرة ضد المعارضة».
ولم يكن مستغرباً قرار صالح طرد مبعوثي قناة «الجزيرة» القطرية من الأراضي اليمنية، والسبب بحسب ما جاء في خطابه أمس، أنها تتعمد تجاهل «التظاهرات المليونية المؤيّدة»، وتعمد إلى التركيز على تظاهرات المعارضة، التي لا تتجاوز عشرة آلاف متظاهر، بحسب قوله.
ولا يمكن فصل مقدار الضغط النفسي الذي تفعله هذه التظاهرات الحاشدة، التي تخرج منادية برحيله، عن دفعه إلى اتخاذ جملة من القرارات قبيل خروج كل تظاهرة. ويبدو أن الخروج الكبير اليوم في عموم المحافظات سيعمل على تحديد شكل الأيام المقبلة، لا سيما أن التظاهرات مكرسة للتضامن مع عدن ذات القيمة الرمزية، رغم أنها تخلّت عن مكانتها عاصمةً لدولة جمهورية اليمن الديموقراطية الشعبية لتصبح بعد الوحدة في المرتبة الثانية في الجمهورية اليمنية، وهذه من الأشياء التي بقيت في الضمير الجمعي لليمنيين. وأخيراً سيكون «يوم الغضب» رسالة واضحة للحاكم أن خيار العنف ولغة الدم التي أظهرها في عدن يوم الجمعة الفائت لن يكون أمراً يسهل تفويته.