صفات عديدة التصقت بشخصية العقيد الليبي معمر القذافي منذ تسلّمه الحكم في عام ١٩٦٩ حتى لحظات انتفاض شعبه لإطاحته، مانحةً إياه لقب الشخصية الأكثر جدلاً في العالم. فأينما حلّ رافقته نزواته ذات الصبغة النرجسية، الخيالية، المتناقضة والمائلة إلى الاستعراض، حتى غدت عبئاً على علاقات ليبيا الخارجية، بما في ذلك الجارة المصرية، وتحديداً في فترتي حكم جمال عبد الناصر وأنور السادات. وتفيض ذاكرة الكاتب محمد حسنين هيكل، الذي كان أول من التقى القذافي بعد ساعات من نجاح الثورة، بروايات عن حوادث طبعت السياسة المصرية ـــــ الليبية، وكان لشخصية القذافي ومزاجيته الدور الرئيسي في تحديدها. وساهم إعجاب القذافي وتأثره بشخصية الزعيم المصري، جمال عبد الناصر، إلى جانب قصَر المدّة الزمينة التي امتدّت خلالها علاقة الزعيمين، في منح عبد الناصر فرصة احتواء طموحات القذافي واندفاعاته هو وأقرانه من الضباط الأحرار الذين وصفهم هيكل بعدما التقاهم بأنهم «شباب بريء إلى درجة محرجة، وشباب رومانسي إلى درجة خطرة».
وبينما كان القذافي يعرض الوحدة بين مصر وليبيا، كان عبد الناصر يسايره بالقول إن «المبدأ مقبول لكن التنفيذ مؤجّل». وعندما طالب العقيد الليبي بالمساهمة في المعركة ضد إسرائيل، لم يُرفض طلبه لكن اتُّفق على أن تترك لعبد الناصر فرصة التفكير في طريقة مساهمة ليبيا. وهو ما حصل عندما طلب عبد الناصر من القذافي تمويل شراء قاذفات طائرات، لم يتردد في حينها الزعيم الليبي في دفع ثمنها حيث كانت الثقة محور العلاقة بين الرجلين.
إلا أنّ حالة الوئام والتناغم في العلاقات المصرية ـــــ الليبية، سرعان ما تبدّدت مع تولّي أنور السادات سدّة الحكم عقب موت عبد الناصر، ما مثّل من وجهة نظر هيكل «هزة عنيفة للضابط الشاب الذي مشى من الخيمة إلى قمة السلطة في بلاده بغير تمهيد».
فلا القذافي كان مقتنعاً بأن السادات يستطيع ملء مكان عبد الناصر ومكانته، بعدما وصفه بأنه «ليس صاحب فكر ثوري يناضل لتحقيقه، ومجرد رجل أذهلته السعادة حين وصل إلى السلطة في لحظة فراغ أصاب الكل بالدوار»، ولا السادات كان يرى في نظيره الليبي أكثر من «شخص مجنون، شاب بلا تجربة، وأنّ استعداده للمغامرة أكبر من قدرته على حساباتها»، ولذلك فإن «الكيمياء بين الرجلين تعطل تفاعلها، وتنافرت عناصرها بدل أن تمتزج».
تنافر تمثّل في عدد من المواقف الصدامية، جعلت من «محاولات جمع النقيضين ينفد وقودها مبكراً». وفي السياق، يروي هيكل كيف تحوّل حديث بسيط خلال شرب القهوة عن أهمية النيل إلى صدام بين السادات والقذافي، تبادل فيه الرجلان التراشق الكلامي والاتهامات، بأنّ كلّاً منهما يحسد الآخر على مقدّرات بلاده من النيل إلى النفط.
مرة جديدة أدّى النفور المستحكم بين الرجلين إلى القضاء على اقتراح القذافي في عام ١٩٧٢ تقديم ثلاثمئة مليون جنيه استرليني لمجمع الصناعات المصرية «المحلة»، الذي كان يعاني في ذلك الوقت نقصاً في النقد الأجنبي، ما انعكس سلباً على قدرته التشغيلية.
وبعدما استنفدت تهمة الحسد غاياتها، جاء انتقاد القذافي لما سمّاه «تمجيد الرجعية»، بسبب وجود مواد إعلانية عن منجزات الشيخ زايد بن نهيان في الإمارات على صفحات «الأهرام اليوم»، وانتقاده ملك السعودية، فيصل بن عبد العزيز، ليثير حنق السادات ويتسبّب في معركة كلامية جديدة تخللها تشكيك الطرفين في «ثورية» الرجلين. وكما اتخذ قرار دفع الأموال بلحظات، كان قرار إلغائها بلحظات أيضاً، ليؤكد القذافي من جديد عجزه عن كبح أهوائه، وافتقاره إلى الدبلوماسية كما حصل في القمة العربية في كانون الثاني 1969 في الرباط، عندما انتقد تقبيل رئيس الديوان الملكي المغربي يد الملك حسن صارخاً «ما هذا؟ تقبيل أيادي؟ عدنا إلى عصر العبودية. لا... لا... هذا شيء مرفوض... مرفوض تماماً»، أو صراخه في بهو قاعة الاجتماعات «اقبضوا على هذا الرجل، ما الذي جاء به معنا؟ هذا قاتل... مكانه السجن وليس هنا»، وذلك لدى مرور وزير الداخلية المغربي الجنرال محمد أوفقير، المتهم بخطف بن بركة.
والقذافي الذي لم يتردّد في زيارة القاهرة من دون تنسيق مسبق أواخر شهر آب 1973، كان يدرك أن حاجة مصر إليه لتمويل شراء السلاح استعداداً لحرب تشرين الأول 1973، ستفرض على أقرانه المصريين استقباله، وحتى مسايرته بالسير نحو توقيع وثيقة «إعلان ميت أبو الكوم»، تأكيداً لرغبة البلدين ولو شكلياً في الوحدة. لكن ما لم يكن اندفاع القذافي قادراً على تخيّله، هو منعه من دخول غرفة عمليات الحرب لأن السادات كان فاقداً الثقة به، بعدما تساءل القذافي مع اندلاع الحرب «هل هي حرب تحرير أم تحريك؟»، وسط اعتقاد راسخ لدى الرئيس المصري بأن «معمر سوف يحكي لطوب الأرض عمّا يرى في غرفة العمليات».
والصراع بين القذافي والسادات، الذي رأى هيكل أنه تحوّل حاجزاً نفسياً في السنوات اللاحقة، لم يكن في جزء منه سوى صراع على خلافة زعامة عبد الناصر.
فالرجل «الذي مشى من الخيمة إلى القمة مباشرة من دون المرور بمحطات يتوقّف عندها ويجرّب ويدرس ويتعلّم، نجح في اجتياز أكثر المحاولات خطورة بأقلّ التضحيات تكلفة، واختار الزعيم المصري مخاطبته بالقول: معمّر أنت تذكّرني بشبابي، أغرته أحلامه حتى بات لا يرى نفسه الأقدر والأجدر بحكم بلاده فقط، بل القارة الأفريقية والعالم إذا أمكن». هذا ما قد يفسّر تشبثه بالسلطة حتى الرمق الأخير، حتى لو تطلّب الأمر إبادة شعبه الذي أمعن طوال سنين في إذلاله وإفقاره.