لا يفارق الحزن زاوية من زوايا منزل جلال خواص في مخيم الرشيدية. «زوجتي راحت بشربة ماي نتيجة خطأ طبي لم يكن بالحسبان»، يقول جلال. يتجهّم الرجل المفجوع حين يذكر ذلك المشهد السوريالي على أحد أسِرّة قسم التوليد في مستشفى بلسم في المخيم. تتوقّف ذاكرته عند تلك اللحظة، إذ لم تكد الفرحة تدخل قلبه بسماعه عبارة «مبروك إجاك عريس»، واستعداده لشراء الحلويات حتى تلقّى الصدمة بوفاة زوجته. يروي الرجل بحرقة كيف أنّ الزوجة المسكينة لم تكن تشكو من أي ألم أو عارض صحّي قبل دخولها المستشفى بساعات قليلة، لا بل إنّها أنجزت كل الأعمال المنزلية وأعدّت طبخة المغربية. لا يمانع خواص في سرد تفاصيل حادثة الوفاة. يتوقّف للحظات لحبس دموع لا يريد لها أن تفلت ثم يقول: «بدأنا نشعر بالقلق حين تأخرت في الخروج من غرفة العمليات على الرغم من إتمام الولادة، وحين سألنا عن سبب التأخير، أخبرونا بأنّها أصيبت بنزيف، وهم بصدد معالجتها، من دون أن يطلبوا منّا توفير وحدات من الدم».
مرّ وقت إضافي والأمور تراوح مكانها، إلى أن اقتحمت والدة جلال غرفة العمليات لترى شادية مستلقية وعيناها مغمضتان. وعندما سألت الطاقم الطبي ماذا حصل مع كنتها، أتاها الجواب بأنهم يجرون لها «الكورتاج» وهي بحاجة إلى دم.
والمفارقة أنّ المستشفى لم يزوّد شادية، بحسب زوجها، بأية وحدة دم، بذريعة أنّ «الطبيبة المعالجة تجهل توفر قسم لبنك الدم، على الرغم من مرور سنوات طويلة على عملها في المستشفى». وبعد أخذ وردّ، نقلت الزوجة إلى مستشفى آخر وهي تلفظ أنفاسها الأخيرة، حيث كان من المستحيل إنقاذها، ففارقت الحياة قبل وصولها عتبة المستشفى الجديد.
هذا الخطأ الطبي الذي أودى بحياة شادية، أغضب اللجان الأهلية، التي طالبت لدى زيارتها المستشفى بوقف تحويل حالات التوليد من وكالة الأونروا إلى قسم الولادة فيه، ريثما ينتهي التحقيق في هذه القضية، والذي من شأنه أن يقرّر مدى أهلية هذا المستشفى لاستقبال المرضى. ولوّحت اللجان بالتحرك في ضوء هذا التحقيق الذي تجريه لجنة مستقلة، على حد تعبير أمين سر اللجنة الشعبية في المخيم الشيخ أحمد إسماعيل. ويشير الرجل إلى أنّه ليس الخطأ الأول الذي يحصل في المستشفى، فقد وقعت 4 أخطاء مماثلة في العام الماضي.
لكن اسماعيل يؤكد «حرصنا على بقاء المستشفى الذي يعدّ ملاذاً لأهل المخيّم، وإن كنا لا نستطيع أن نسكت عن الأخطاء المتكررة التي تسيء إلى سمعة جمعية الهلال الأحمر أولاً والمستشفى ثانياً، ما يجعل اللاجئ يهجّ منها». ويطالب إسماعيل بـ«تأهيل الطاقم ومواكبة التطور الطبي الحاصل، عبر إخضاعه لدورات علمية دائمة، ما يزيد من كفاءته ليصبح قادراً على مجابهة أي حالة تعرض عليه بالطرق الحديثة»، مشدّداً على أهمية المحاسبة و«كشف المسؤولين عن الأخطاء».
إلى ذلك، يمكن رصد الكثير من الحالات التي يستقبلها المستشفى، ولا تُبلسَم نهائياً»، فترحّل إلى مستشفيات أخرى، إما لعدم وجود طبيب مختص أو لعدم توفر المعدّات اللازمة. هكذا، تعلق الكثير من العمليات أثناء إجرائها، ريثما يُنقل المريض إلى مستشفيات أخرى، وهو ما حصل تحديداً مع أم أحمد ميعاري، التي حالت النواقص في «بلسم»، دون استكمال عملية في قدمها، فحوّلت إلى مستشفى خارج المخيم. أما أم محمد حوراني فلم تجد طبيباً مختصاً في أمراض الربو لدى إصابة ابنتها بنوبة ربو، «هون طبيب الصحة العامة يتولّى معظم الاختصاصات»، تعلق.
ويتحدث عضو اللجنة الشعبية نمر حوراني عن أخطاء لا يُتوقع حدوثها في الطب مثل عدم مراعاة حساسية المريض تجاه الدواء لدى إعطائه أو أن يعطى إبرة بالشريان بدلاً من المصل. وتبرز مشكلة أخرى مشتركة مع باقي المستشفيات، هي التحويلات من الأونروا إلى المستشفى. وهنا يلفت حوراني إلى أنّ وكالة الأونروا باتت تتنصل من حالات استشفائية كثيرة. التهرّب من المسؤولية ازداد، بحسب الرجل، أكثر مع وجود مساعدات طبية أوروبية، إذ باتت ترمى الكثير من الحالات على المستشفى مع العلم أن الأونروا هي المسؤولة عن تغطيتها.
ومع ذلك لا ينفي حوراني التحسينات التي طرأت على المستشفى أخيراً، لا سيّما على صعيد الخدمات الفندقية، فيما يبقى الأهم هو إعادة تأهيل الكادر الطبي.
في المقابل، ينفي المدير المسؤول في المستشفى د. عبد عنتر ما يسميه «الافتراءات والشائعات المغرضة التي تطلق على المستشفى، والهادفة إلى إقفاله»، متسلحاً بإحصائيات عن عدد المرضى الداخلين إليه. يؤكد أن عدد الوفيات ضئيل جداً، والأخطاء الطبية تحدث في جميع المستشفيات. وبالنسبة إلى حادثة الوفاة الأخيرة، يشدد على أنّ حالة المريضة كانت حرجة جداً، ولو أعطيت برميلاً من الدم لما كان سيغير من قدرها، مشيراً إلى أن التحقيقات جارية لمعرفة حقيقة الأمر.
بدوره، يوضح المدير الإداري الدكتور خليل الأحمد، أن المستشفى في تطور دائم ولو كان غير جاهز لاستقبال العمليات الكبيرة، نتيجة النقص في بعض الأجهزة الطبية. وهناك تحسن ملموس بين هذه السنة والسنوات الماضية.



على الرغم من شكوى أهالي مخيم الرشيدية من علل كثيرة تعتري مستشفى بلسم، يتمسك الجميع بوجوده، ليس فقط لكونه المركز الاستشفائي الوحيد في منطقة صور للّاجئين، بل لما يحمل وجوده من رمزية، تعود إلى تاريخ الحرب الأهلية في لبنان، إذ «كلف بناؤه دماً»، كما يشرح عضو اللجنة الشعبية في مخيم الرشيدية نمر حوراني. يقول: «بناء المستشفى كان سبباً لإشعال الحرب في المخيمات بين الفلسطينيين وإحدى الميليشيات اللبنانية، التي هاجمت البنّائين، لذلك تنتابنا حرقة ونحن نتحدث عن أهمية الإصلاحات والتحسينات داخل المستشفى».