عملية خلط للأوراق في المنطقة تتسارع وتيرتها يوماً بعد يومٍ، ليس الاشتباك الجوي التركي الروسي الأخير سوى أحد عوارضها. الخارطة المحدّثة لاصطفاف القوى، تظهر بوضوح خروج روسيا من المنطقة الرمادية، باتجاه توثيق التحالف مع إيران، على ما ظهر من خلال الزيارة الأخيرة للرئيس فلاديمير بوتين إلى طهران.
في التوصيف يمكن الاشارة الى الآتي:
* سعار تركي مزدوج الأسباب أقفل باب التسوية في سوريا: الأول داخلي نبع من نجاح رجب طيب أردوغان في استعادة سيطرته على الحكم من خلال الانتخابات الأخيرة، فترجم الأمر إدارة حازمة لسياسة خارجية تطابق تطلعات حزبه. والثاني خارجي تحركه نزعة انتقامية من سلسلة الانتكاسات التي منيت بها تركيا على الساحة الإقليمية، ومنها تراجع حلفائه على الساحة السورية.
* تصعيد أميركي، في أكثر من اتجاه، ظهر جلياً في التغطية الكاملة لعملية إسقاط تركيا الطائرة الروسية، وسط عملية تسليح تجري على قدم وساق لحلفاء واشنطن من المعارضة المسلحة في سوريا. كذلك ظهر التصعيد الاميركي في دفع أوكرانيا الى قطع الكهرباء عن منطقة القرم، بعد أقل من أسبوعين على تفجير مشبوه لطائرة روسية مدنية في شرم الشيخ، تبنّاه «داعش» كجهة منفذة، وسط تساؤلات عن الرسالة التي حملها والطرف المخطط.
* ارتباك أوروبي، تولد في أعقاب اعتداءات باريس والتهديد التكفيري الذي يخيّم على دول القارة القديمة كلها. فجأة وجدت أوروبا نفسها في حالة استنفار غير مسبوقة، مترافقة مع برامج وإجراءات ما وراء البحار، تهدف الى منع وصول الإرهابيين الى حدود القارة العجوز. وهي إجراءات إذا ما سارت في سياق صحيح لضمان أمن أوروبا، فسوف يكون ممرها الاجباري التعاون مع دمشق وحلفائها.
* تعنّت سعودي يزداد شراسة ورفضاً لأي حلحلة، من سوريا الى العراق الى اليمن وصولاً الى لبنان. وهو تعنّت يتمظهر في رفع مستوى دعم كل الشبكات والمجموعات الارهابية في كل هذه الدول وفي مناطق أخرى من العالم، من دون ضمان أمن السعودية الداخلي أيضاً.
وفي الوقائع، تعيش بلادنا على وقع سياق فيه حرب قاسية، بين مسار ميداني أخذ شكلاً مختلفاً مع التدخل العسكري الروسي المباشر في الحرب السورية، ومسار سياسي ولد ميتاً في فيينا. لكن ما أضيف الى هذا السياق هو مسار الارتباك الذي أطلقته اعتداءات باريس.
كثيرة هي التحليلات التي أصّلت لقرار بوتين إرسال قواته إلى سوريا، وتبدأ من اقتناعه بوجوب محاربة التهديد التكفيري في سوريا كي لا يضطر إلى القيام بذلك في موسكو، في ظل معلومات تزداد وضوحاً يوماً بعد يوم عن أن المعركة المقبلة مع «داعش» ستكون في آسيا الوسطى حيث أقامت أكثر من إمارة في المنطقة بين الصين وروسيا وإيران، ولا تنتهي طبعاً بمحاولة روسيا جمع أوراق تفاوضية يمكن أن تصرفها على طاولة محادثات تجمعها مع الولايات المتحدة في يوم قريب، على ما درجت عليه في أكثر من محطة، من بوشهر مروراً بالقرار الدولي حول ليبيا ولا تنتهي بمثيله المتعلق باليمن.
وكثيرة هي أيضاً المعطيات التي تفيد بأن التدخل الروسي العسكري في سوريا لم يرفع من ثمن التسوية معها، حيث بقيت العروض على حالها، وتتراوح بين استثمارات خليجية ببضعة مليارات وصفقات تسلح بأرقام متقاربة، بل لم يؤمن لروسيا اعترافاً بها قوة عظمى على الساحة الدولية، ولم يخفف من حدة قواعد الاشتباك في أوكرانيا، ولا أقنع أيّاً من الأطراف بضرورة رفع ولو جزء من العقوبات المفروضة عليها.
التدخل العسكري الروسي في سوريا، وما تضمنه من مظلة جوية للسماء السورية، فرض مجموعة ضوابط وقيود على حركة الفاعلين الإقليميين والدوليين في الساحة السورية من الطرف الآخر، والحديث هنا عن واشنطن وأنقرة والرياض، مع توجيه ضربات جدية لأدوات هذه الدول على الساحة السورية، كان آخرها على سبيل المثال لا الحصر قافلة صهاريج النفط الخاصة بداعش، والتي أبيدت عن بكرة أبيها، فضلاً عن عملية القضم المستمرة للأراضي، والتي تهدد، في حال اكتمالها، بوضع سدّ أمام الحركة التركية في الشمال السوري.
أما مسار الحل السياسي، الذي جرى إعادة تفعيله على قاعدة العلاقة التفاعلية مع حركة الميدان، فقد قام على معادلتين متناقضتين: الأولى، غربية المصدر، تفيد بأن لا ضرب لـ»داعش» من دون حل سياسي، ولا حل سياسياً بوجود الرئيس بشار الأسد، ما يعني عملياً رفضاً غربياً مطلقاً لتوجيه أي ضربة لـ»داعش». أما الثانية، فإيرانية الطرح، تقوم على معادلة أن لا حل سياسياً من دون تيئيس الطرف الآخر من إمكانية تحقيق إنجاز، وهو هدف لا يتحقق من دون القضاء على الطرف الأقوى في المجموعات المسلحة السورية، أي «داعش» و»النصرة».
هذا طبعاً من دون الحديث عن الاتفاق على الاختلاف حول مصير الأسد، الذي يكتنز بحدّ ذاته تناقضاً بنيوياً في الرؤية لمآلات الصراع في سوريا، حيث الهدف الاستراتيجي من كل ما يجري، من وجهة نظر الطرفين، ضمان أمن إسرائيل، عبر تمهيد الأرضية لوضع يمكن من خلاله شن حرب جديدة للقضاء على المقاومة التي يمثلها حزب الله، عن طريق حرمانه من عمقه الاستراتيجي بقطع طرق الإمداد اللوجستي عنه. تناقض يتجسّد في اعتبار كل من الطرفين الأسد ضامناً لتحقيق مآربه، الأول بغيابه والثاني بحضوره.
حدث باريس الأخير، له نقاش خاص. يبدأ بأسئلة حول تنظيم «داعش» نفسه، وحول أدائه الذي أظهر في أكثر من محطة أنه عبارة عن تنظيم متماسك، فيه مستوى عال من السيطرة والتحكم، وتديره غرفة عمليات تجيد قراءة المتغيرات الإقليمية والدولية والتعامل معها. تنظيم من هذا النوع سيكون له تفسيره الخاص لقرار تنفيذ تفجيرات باريس. وهو العارف مسبقاً بأنها ستقلب الرأي العام الأوروبي لمصلحة منطق خصوم «داعش»، أي الرئيس الأسد وحلفاءه، وستجبر دول الغرب على اتخاذ إجراءات فعالة تضرّ بالتنظيم وتخدم تحالف دمشق تحت عنوان مكافحة الإرهاب، إلا في حال كان للتفجيرات مآرب أخرى، بغض النظر عن الجهة المنفذة لها، تدفع باتجاه تورط عسكري أطلسي في سوريا، يحاكي الغزو الأميركي للعراق في أعقاب اعتداءات 11 أيلول.

كل ما سبق، يقود الى خلاصة واحدة:
ــ نحن أمام وضع متأزم، فيه اصطفاف جديد لروسيا، نقلها من موقع الوسيط إلى موقع الحليف لإيران، ودفع بها إلى اتهام النظام التركي بتعزيز «التيار المتطرف داخل تركيا»، والى الإعلان عن نصب منظومة «اس 400» في سوريا.
ــ اشتباك إقليمي، قد تكون حادثة الطائرة الروسية أحد مقدماته.
ــ حرب مستمرة وبعنف أكبر، واحتمالات الحسم الميداني لأي من الطرفين غير واقعية الآن.
كل ذلك، يعيد المخاوف من سعي الغرب الى خيار تقسيم سوريا الى مناطق نفوذ، تتحول مع الوقت الى دويلات ينهش بعضها بعضاً.