دمشق | حين يكون الهتاف للنظام في سوريا، تنتشر بسحر ساحر مكبّرات الصوت: أنا سوري آه يا نيالي. وتجوب السيارات ذات الزجاج الداكن الشوارع، موزّعة الأعلام والصور والملصقات: كلّنا (يعني كلنا) معك. وتبارك الجوامع والكنائس نثر الأرز من الشبابيك. ويهرع الشبان بمكبرات الصوت إلى كلّ من تخطر على رأسها زلغوطة أو عتابا. هي سوريا، كانت أمس تحتفل: المدارس سرّحت التلامذة، الجامعات اكتشفت أن هناك متسعاً من العمر لنهل المعرفة ويوماً واحداً للوفاء.
المحامون بالأثواب السوداء، الأطباء بالأبيض. في بحر «الرأي العام» يمكن الشعور بكلمات نزار قباني يتغزل بالدمشقيات. غابت معالم الساحات، أضحت دمشق أمس على ملعب واحد. هنا لنائب الرئيس المخلوع عبد الحليم خدام، الهتاف: يا خدّام ويا ديّوس، على رأسك بدنا ندوس. للجزيرة الشتائم. العربية توصف بالعبرية، وهنا رسالة: قال لي شاهد عيان، بندر عميل الأميركان.
رقص، يصعب على الاستخبارات بالطبع إرقاص المواطنين كما كانوا يرقصون أمس. يستحيل على الاستخبارات رسم صورة الشبان وهم يتدافعون لتسلّق شجرة والتلويح بصورة الرئيس. في الساحة ـــــ المدينة، يبدو اتهام الاستخبارات بالوقوف وراء كل ما تشهده سوريا هذه الأيام احتقاراً للمواطنين. لا شك في أن الاستخبارات تطلق التظاهرة، تضبطها خاطفة كل من يحاول أخذها إلى مكان غير الذي رُسم لها. تقطع أوصال المدينة مقفلة بعض الشوارع لتشتدّ الزحمة ويكبر الحشد. لكن الأكيد أن هناك حضوراً قوياً للرئيس بشار الأسد وسط شعبه. حضور بدا واضحاً أمس لموظفي السفارة الأميركية، والسفارات الأخرى في دمشق، الذين تفرجوا على المتظاهرين يمرّون بهم.
في إحدى الساحات، رفعت صورة كبيرة للأسد والأمين العام لحزب الله السيد حسن نصر الله كُتب عليها: قل لي من تصادق أقل لك من أنت. تحتها كان شاب عشريني يهتف: بتحبّوا مين؟ قائد الملايين؟ حبيبنا مين؟ فتجيب برمجة إنسانية: بشار.. بشار.. بشار.. وبقربهم تعبر مجموعة أخرى هاتفة: الشعب يريد (يستنفر عناصر الاستخبارات)... بشار الأسد (يرتاح عناصر الاستخبارات).
اختفت إذاً التحرّكات المناوئة للنظام من الشارع الذي غصّ بالتحالفات المؤيّدة. والأسباب كثيرة، منها: الحصار الأمني الذي خنق التحركات الشعبية في مهدها، التظاهرات الكبيرة المؤيّدة للأسد، حذر المثقفين من «أكل الضرب» كما في كل مرة وأعمال العنف التي أعادت أبناء العالم الافتراضي إلى عالم الواقع. حتى إن البعض وجد في حشود أمس ردّاً من جانب السوريين على ما شاهدوه في وسائل الإعلام الخارجية خلال الأيام العشرة الماضية.
هكذا، بحماسة مؤيّدة للأسد، من شارع إلى آخر، وصولاً إلى المجلس النيابي. يطلّ على المتظاهرين الشباب من على باب المجلس بعضُ المسنين. يعجز معظمهم عن رفع قبضتهم للتلويح للمتظاهرين. يهتفون من أنوفهم لا من أفواههم: بالروح بالدم نفديك يا بشّار. لا تقاس المسافة بينهم وبين الشبان بعشرات السنين. هؤلاء الذين لا يشبهون المتظاهرين في شيء غير هتافهم أيضاً «الله سوريا بشّار وبس»، سيقاطعون بالتصفيق التقليدي، عشرات المرات الرئيس الأسد في كلمته إلى السوريين من مجلس الشعب عند الساعة الحادية عشرة بتوقيت سوريا (الثانية عشرة بتوقيت بيروت).
الخطاب الذي تقرر نقله من القصر الرئاسي إلى مجلس الشعب، وقد تحدثت «الأخبار» أمس عن أبرز ما سيتضمّنه، ستتبعه تظاهرات يُعدّ لها حزب البعث، ويأمل أن تكون الأكبر في تاريخ سوريا. ويأتي الخطاب بعد إعلان الرئاسة السورية قبول استقالة الحكومة وتكليفها بالاستمرار بتصريف الأعمال ريثما تتألّف حكومة جديدة. وبحسب معلومات «الأخبار»، فإن أبرز اسم متداول لتأليف الحكومة السورية الجديدة هو وزير الإدارة المحلية في حكومة تصريف الأعمال تامر الحجمي، الذي شغل سابقاً موقع محافظ ريف دمشق ثم محافظ حلب، رغم وجود مجموعة أخرى من الأسماء المرشحة لهذا المنصب. ويصف بعض المسؤولين علاقة الحجمي بأهالي هاتين المحافظتين بالمميزة جداً، فضلاً عن أدائه أخيراً دوراً محورياً إلى جانب نائب وزير الخارجية السوري فيصل المقداد في تخفيف توتر أهالي درعا. وبحسب معلومات «الأخبار»، سلكت المشكلة فعلياً طريق الحل بعد توقيف السلطات السورية لمحافظ درعا الذي أقيل من منصبه، وإحالة مسؤول الأمن السابق فيها على التحقيق، ويرجح توقيفه أيضاً.
وبالعودة إلى الحكومة التي يؤكّد المقربون من الرئيس الأسد أنه سيشرف على عملها اليومي، سيكون على جدول أعمالها تحقيق ما سيعد به الأسد اليوم من تحرير للإعلام والقضاء والعمل الحزبي، إضافة إلى ثلاث مهمات أساسية: أولاها، تعيين محافظين جدد في معظم المحافظات السورية. ثانيتها، إقالة غالبية المديرين العامين الذين يبلغ عددهم نحو 700 مدير عام، وتعيين مديرين عامين جدد، معظمهم من عنصر الشباب. الثالثة، تحديد موعد إجراء انتخابات مجالس بلدية جديدة في مختلف المحافظات السورية، والإشراف على هذه الانتخابات، مع تعهد الحكومة بإعطاء المجالس البلدية استقلالية مادية وإدارية. إضافة إلى هذه المهمات الواضحة، يسهب بعض المسؤولين في الحديث العام عن استحداث لجان للرقابة والمحاسبة وغيرها. ويذكر على الصعيد الحكومي أيضاً أن التغيير سيستثني على الأرجح وزارة الخارجية ويطال معظم الحقائب الأخرى، مع العلم بأن المتابعين السوريين لشؤون بلادهم يؤكدون أن الشعب يعرف جيداً غالبية المسؤولين، وسيثبت ردّ فعله إن كان المختارون الجدد نظفاء ويصلحون للإصلاح أو لا.
وضمن التحديات الإصلاحية التي تنتظر الأسد في المرحلة المقبلة، هناك ما يتعلق ببيته الداخلي، أي حزب البعث. فمنذ ستة أشهر، قبلت استقالة جميع المسؤولين في الحزب، من دون استثناء. وتأخر انتخاب البدلاء أو المسؤولين الجدد نتيجة صراعات متنوعة.
أخيراً، يقول مسؤول قريب جداً من الرئيس الأسد، إن ما تحقق في شوارع سوريا أمس «انتصار كبير، لكن الثورة لم تتجاوزنا ولا بد من الاستجابة لتطلعات الشعب إلى الحرية والإصلاح».