تونس | طرح تعيين وزير الداخلية السابق اللواء عبد الفتاح يونس، رئيساً للقيادة العسكرية للمجلس الوطني الانتقالي الليبي، العديد من الاستفسارات، وخصوصاً عن مدى نجاعة هذه القوات وقدرتها على التعامل الميداني مع أيّ طارئ، وكذلك عن مدى جودة نظام الاتصال والتنسيق والاستخبارات بين وحدات الثوّار. لكن العديد من وسائل الإعلام ربطت آلياً بين التقهقر الملحوظ للثوار أمام كتائب القذافي من مشارف سرت إلى حدود أجدابيا، وبين توقّف القصف الأطلسي لمدة يومين. هذا الأمر ولّد في المقابل سؤالاً كبيراً وغامضاً عن قدرة الثوار على القتال في حال غياب الدعم الخارجي والقصف الجوّي. المعطيات الجديدة التي وفّرها الانسحاب السريع من رأس لانوف والقليعة وبن جواد والانكفاء إلى أبواب أجدابيا، طرح أيضاً على المجلس الوطني الانتقالي في المناطق الشرقية ضرورة إعادة التنظيم في صفوف قواته، التي يبدو أنها عاجزة عن مواجهة كتائب القذافي في ظلّ عدم التوازن في التسليح والمعدات والعدد.
وصدر أول من أمس قراران مهمان يرتبطان بالمعركة في البريقة، أولهما تعيين وزير الداخلية الأسبق قائداً عاماً لقوات المجلس الانتقالي، وثانيهما، سحب الثوار إلى المناطق الخلفية الواقعة بين أجدابيا وبنغازي، وترك الجبهة الأمامية الواقعة بين أجدابيا والبريقة في يد القوات النظامية التي التحقت بالثوار، وإعلانها منطقة عسكرية مغلقة.
واللواء الركن عبد الفتاح يونس العبيدي، ابن المنطقة الشرقية، مصري المولد، وابن قبيلة العبيدات المنتشرة شرقاً من أجدابيا إلى حدود مصر، والمعروفة بسطوتها. هو أكثر رجال النظام الليبي وثوقاً من العقيد معمر القذافي قبل الثورة، لدرجة أنه حين انفصل والتحق بالثوار، كذّب العقيد القذّافي الخبر، وأعاد إعلان تعيينه وزيراً للداخلية في محاولة لإغرائه بالعودة إلى طرابلس. وإضافة إلى خبرته الأمنية، هو مشهود له بالكفاءة العسكرية والإدارية، التي يعوّل المجلس الوطني الانتقالي عليها الآن لمجابهة مصاعب القتال على الطريق نحو سرت وطرابلس، وخصوصاً أن الثوار يفتقرون ميدانياً، من خلال حتى شهادة كبار المسؤولين الغربيين، الى الخبرة والتنظيم ولا يتقنون فنون الحرب الطويلة.
وأتى هذا التعيين بعد إزاحة القائد العام لقوات المجلس الوطني الانتقالي، العقيد الركن خليفة حفتر، الذي كان يتمتّع بسمعة عسكرية أقرب إلى الأسطورة، لكن الانسحاب السريع والهزيمة المبكّرة أمام كتائب القذافي الأسبوع الماضي كلّفاه منصبه، بل قد تكلّفه أيضاً وجوده في تشكيلة المجلس ككل.
حفتر، العسكري الذي قاد الجيش الليبي إبّان معارك تشاد، وسجن مع أسرى ليبيين آخرين في سجن عسكري في وسط العاصمة التشادية، كان له باع طويل في معارضة نظام القذافي. لقد قرّر الرجل الانفصال عن القذافي خلال فترة اعتقاله في تشاد، وعمل لإقناع العسكريين الأسرى بالتحرك من خارج ليبيا، فأسس عام 1987 تجمّعاً معارضاً مكوّناً من ضباط وعسكريين، أطلق عليه اسم الجبهة الوطنية لإنقاذ ليبيا المعارضة وألحقه في عام 1988 بتأسيس الجيش الوطني الليبي، الجناح العسكري للجبهة تحت قيادته.
لكن التحاق العقيد حفتر بالثورة، وما مثّله من دعم معنوي لها، وتوليه قيادة جيشها الميداني لم يرحمه من همس بأنه أصبح مشروعاً أجنبياً، نظراً إلى أنه أمضى سنوات طويلة في الولايات المتحدة.
وهذا الهمس حوّله إلى موضع شكّ لدى عدد هام من الثوار الذين يرفضون أي تدخل أجنبي، والذين يرون في معارضي الخارج وصوليين، فقط، يريدون قطف ثمار الثورة، كما يشككون في علاقات العقيد حفتر بالدوائر الاستخبارية الغربية، والأميركية تحديداً.
لا شكّ في أن الضربة الأخيرة المزدوجة من كتائب القذافي ومن طيران الأطلسي أيضاً، التي فُهمت لدى المجلس الانتقالي في بنغازي بأنها رسالة صغيرة، مفادها أن الولايات المتحدة ليست مستعدة لتحمّل نتائج نزوات العقيد حفتر، وحبّه للمغامرة وأنها تولي الجانب الدبلوماسي أهمية أيضاً، فكان أن أزاحوه وطلبوا هدنة؛ فالعقيد حفتر في قاموسه المرتكز أساساً على حبّ البروز وعلى عقلية الغزو، اندفع بكل سرعة يقود الثوار غير المدرّبين وغير المحترفين على الطريق الساحلي باتجاه سرت، فوقع في كمين قاتل في الوادي الأحمر وآخر في بن جواد، رغم أن أي مواطن ليبي بسيط يعرف مدى قوة تحصينات الدفاعات الليبية في الوادي الأحمر وصعوبة اختراقها من قوة صغيرة محمولة على سيارات مدنية.
إذاً، انتهت أيام العقيد خليفة حفتر، الذي أقصى العسكريين وأبعدهم إلى المناطق الخلفية انتقاماً منهم لأنهم رفضوه. وأعاد الكرة بهزيمة أخرى في البريقة مشابهة لهزيمته قبل ربع قرن في تشاد.
وجاء اللواء العبيدي ليقلب كل المعادلات الميدانية، ويدخل بالثورة الليبية مرحلة جديدة تتميّز بالتقليص من عمليات الاندفاع السريع، ومحاولة الزحف البطيء المحكم، والمحافظة على المواقع، وتقديم العسكريين إلى الخطوط الأمامية من الجبهة، فهل تمر إقالة العقيد حفتر بسلام؟ وهل نرى في الأيام المقبلة انتصارات جديدة للثوار؟