لم يفكّر سعيد برحلة التهريب قبل عام 2006. كان عمره 20 عاماً، ولا يجني اكثر من200 ألف ليرة في الشهر. تلك السنة «العالم بطَّلت تلاقي شغل»، لكنه تحمّل وضعه في ذلك المخيم الشمالي الى أن جاء يوم صعق فيه لرؤية مظاهرة مسلّحة في المخيّم، جلّها من أطفال لا تزيد أعمارهم على 14 سنة. سألهم «ليش يا عمو منكم بالمدرسة؟ لشو تحملوا السلاح؟»، فأجابوه أنّهم يقبضون مقابل ذلك مئة ألف ليرة شهرياً. حينها قرّر أن يرحل.«قلت لنفسي سافر لبرّا أحسن ما تحمل بارودة. وساعتها بتبطَّل تنبل وبتشتغل». أمّا التهريب فسهل إذا ما كانت لديك القدرة على الدفع. هناك 3000 دولار تذهب للمهرّب خلال الرحلة وعليك أن توفّر 500 دولار أخرى أوّلية للمصروف. بالكاد استطاع أن يجمع المبلغ، هو الذي لم يكن يملك 250 الف ليرة بدل «وثيقة جواز سفر خاصة باللاجئين الفسطينيين» من الدولة اللبنانية.
كانوا في البداية 7 فلسطينيّين ولبنانياً واحداً. ناموا 3 أيّام في جبال منطقة «وادي خالد» على الحدود السورية، ثم عبروها مخترقين جبال حلب. وبما أنهم متسللون، يبدأ المسير مع الدليل الذي يعمل مع المهرب، كلّ يوم 5 مساءً حتى 10 صباحاً. شهر من البرد والثلج والصمت، لئلا يلفتوا الأنظار، ليصلوا ضيعة قريبة من الحدود التركية. المسدّسات البادية على خواصر المهرّبين تجعلك تصدق تهديدهم لك بالقتل إذا ما سمعوا صوتك، ولو كان ذلك زعيق رعب أو نداء استغاثة.
18 ساعة متواصلة حتى الحدود. عليك أن تنتظر هناك، وتصلّي، ليتلاءم وصولك مع وقت تبديل الحرس، وإلا ترجع إلى الضيعة لتحاول مرّة أخرى. حالف الحظّ سعيداً ورفاقه، فبدّل افراد حرس الحدود مواقعهم في آخر لحظة. على الطرف الثاني من الحدود، عشر ساعات أخرى من المشي حتى اخذهم المهرب في سيّارة لمدّة 3 ساعات الى مدينة أنطاكيا. ومن هناك الى مدينة إزمير. 15 ساعة في الباص، ثم جمعوا مع آخرين في فندق صغير دبّره المهربون قبل عبور البحر الى الجزر اليونانية. لكن الأمور لم تجر على خير، إذ نفّذت فرقة من الشرطة متنكرة بثياب عصابة، هجوماً عليهم بينما كانوا في الفندق، فتعرّضوا للضرب وقبض على البعض، وفرّ البعض الآخر ومنهم سعيد. لم يعد لدى سعيد ورفاقه الآن أيّة أوراق ثبوتية أو أموال كافية. رجعوا إلى الفندق بعد 4 أيّام يحتجّون لدى المهرّب، مطالبين بتسريع نقلهم إلى البحر، لكن المهرّب عاندهم قائلاً إنّ البحر هائج وخطر هذه الأيّام، وهو وإن كان مهرّباً «لا يقبل أن يتاجر بأرواح الناس». انتظر سعيد 4 أيّام قبل أن يلقي البوليس التركي هذه المرّة القبض عليهم فيسجنوا 8 أيّام. لكنّ ما أثّر في سعيد هو الاحترام الشديد الذي أبداه الاتراك لهم «ما شفت صراحة أنا لسّه هيك. أعطونا أوراقاً من أجل التجوّل وإبرازها عند الحاجة... يعني اذا بتشوف حيوان بالطريق لازم تقدّر له مشاعره فكيف إذا بني آدمين؟».
سافر سعيد بعدها من إزمير الى شاطئ البحر في رحلة مدّتها 7 ساعات بالسيّارات ثمّ 5 ساعات على الأقدام. عندما وصل، كانت السفينة أمامه عبارة عن فلوكة غير صالحة للإبحار. بالكاد يمكنها أن تسع 28 شخصاً، منهم من كان يتناوب على إفراغها من المياه المتسرّبة عبر الثقوب. لحسن الحظ أنّها تحطّمت 100 متر قبالة جزيرة كيوس اليونانية، فأكمل الركّاب مشوارهم... سباحة هذه المرّة! أمّا خفر السواحل فقد قبضوا على جزء كبير منهم، فيما أفلح سعيد مع بعض رفاقه بالهرب نحو الجبال.
كانت المعنويات في الحضيض. وبدا حينها أنّ الأمل بالخروج من جبال كيوس نحو أثينا معدوم، خصوصاً أنّه لم يعد لديهم أيّ شيء صالح للأكل. إلّا أن سعيد كان يشدّ من أزر رفاقهم «إذا رجعنا الآن ايش يقولون عنّا في المخيّم؟ لازم نكمّل عشان نصير بني آدمين!». ترك سعيد ورفيقه المجموعة للتموّن والاستفسار عن موعد السفن المتوجّهة إلى البرّ اليوناني. لكنّهما فوجئا عند رجوعهما بأنّ البوليس اليوناني قبض على المجموعة كلّها، فهربا في الجبال 3 أيّام أخرى قبل أن يطمئنّا، من عند قهوة قبالة المرفأ تمركزا فيها، إلى أنّ البوليس اليوناني لم يعد يطلب الباسبورات، فتشجّعوا أخيراً وعبروا إلى باخرة الخلاص حتى أثينا.
كان سعيد بحاجة إلى باسبور جديد في أوروبا، فاستدان من إحدى قريباته 1500 يورو، ونجح بالوصول الى الدنمارك في 3 ساعات عبر الطائرة. «الحياة بالدنمارك فيها التزام بالشغل، ما حدا بياكلّك حقك... بتمشي على نظام. اشتغلت لأساعد أهلي وكنت اطلّع 3000 دولار بالشهر، أما هون حتى لو طلّعت 1000 دولار ما بتضمن حالك إذا دخلت المستشفى». كان عليه هناك أن يصرّح عن هويته الحقيقية للدنماركيين «ما فيك تقول انا مسؤول بفصيل مثلاً... بقولولك وإيش يعني؟ كان بالزمان في ثورة وهلّق ما في... كان أملنا انّو الدولة اللبنانية اللي ما بتخلّيك تشتغل أو تتملّك تقول عنّك انّك شخص غير مرغوب فيه».
«في البداية أنا كمان تعبت، لكنّ بعد اشهر تساءلت هل أموت من جرّاء كلّ ذلك؟ تحسّنت بعدها تدريجاً من الاكتئاب».
لكن جسد سعيد ما زال يعاني من رحلته، آلام الروماتيزم والغضروف تحاصره في رجليه وظهره. لا يمانع في رحلة ثانية، لكنه يفضّل تركيا التي «احترمتنا». إلّا أنّ الموضوع بات يكلّف نحو 13 ألف دولار اليوم. فضلاً عن ذلك أصبح اليونانيّون يتشدّدون جداً على المطارات. «أنا بحط شرط إنّو إذا انفتحت أبواب الهجرة للشعبين اللبناني والفلسطيني ما بيبقى شخص هون! همِّ أعطونا حق نشتغل بالدهان؟ ما كلّ عمري اشتغل بالدهان! بدي عل القليلة اتملّك شقة. الهجرة كانت خلّتني ادعم القضية أكثر وأنا بَرسِل للأهل 30000 دولار بالسنة... إذا في مصاري بتقدر تفكّر بفلسطين... اليوم مستحيل اتزوّج كمان وهناك غيري ما عم بيقدر يأكل».