غالباً ما يُحكى بإعجاب عن أهم ثنائي سياسي متناغم في عالم السياسة اليوم: الرئيس التركي عبد الله غول ورئيس حكومته رجب طيب أردوغان. ثنائي بات مضرب مثل من حيث إنهما رفيقا درب سياسي طويل، كُرِّسَت جهودهما ومعاناتهما في إحكام القبضة على حكم تركيا، وفرض هذه الدولة إحدى أبرز القوى الإقليمية. لكن، بعيداً عن صورة التناغم المثالي بينهما، فإنّ معارك مرئية وأخرى غير مرئية تضع غول وأردوغان أحياناً في مواجهات سياسية داخلية وخارجية كبيرة، من دون أن تصل هذه المواجهات حتى الآن إلى حدّ الطلاق السياسي بينهما.
وأحدث إشارات المواجهة المحتملة بين الرجلين تلوح أفقها في هذه الأيام، وقد فجّرها غول من جاكرتا، عندما أعرب عن معارضته لمشروع أردوغان القاضي بجعل النظام السياسي التركي رئاسياً. كلام كبير بما أنّ أردوغان يصوّر هذا الموضوع بأنه حجر الزاوية في مستقبله السياسي، ولأنه بات من شبه المؤكد أن الرجل يحلم بجعل الدستور التركي رئاسياً على الطريقة الأميركية، ليصبح هو نفسه رئيس جمهورية ذات صلاحيات رئاسية هائلة.
وقال غول للصحافيين المرافقين له في زيارته إلى إندونيسيا إنّه يعارض فرض نظام رئاسي في تركيا، لأنّ الرئيس يحظى أصلاً بسلطات كبيرة. ولدى سؤاله عن إعراب أردوغان عن رغبته في رؤية تركيا يحكمها نظام رئاسي، أجاب «إنّ موقفي بعيد عن تأييد النظام الرئاسي»، مشيراً إلى أنّ النقاش في هذا الموضوع لم يكن مطروحاً في البلاد قبل أن يفتح أردوغان السجال بشأنه أخيراً (قبل أشهر). حتى إن غول أعلن انحيازه لمصلحة مشروع الدستور الذي طرحته «جمعية الصناعيين ورجال الأعمال الأتراك» (TÜSİAD) الذي ينص، عكس برنامج أردوغان، على تعزيز النظام البرلماني، بدل البحث في البديل الرئاسي. وتابع غول عن الموضوع نفسه: «إن كنا نسير منذ فترة قصيرة في مرحلة انتقالية نحو الديموقراطية، فعلينا أن نعيد النظر في نظامنا البرلماني. لكن النظام الرئاسي مختلف جذرياً. القضاء فيه يجب أن يكون مستقلاً تماماً. الأحزاب السياسية في مثل هذا النظام لن تبقى على ما هي عليه اليوم». ورداً على سؤال عمّا إذا كان يؤيّد فكرة طرح مشروع النظام الرئاسي على الاستفتاء الشعبي، أجاب الرئيس «يُحتمَل أن أوافق على ذلك، لكن الأمور مفتوحة للنقاش في ذلك بعد الانتخابات» التشريعية المقررة في 12 حزيران المقبل.
خلافان سابقان
وبعيداً عن السجال الحالي الذي قد يتطور في المستقبل القريب، فإنّ الخلاف الكبير الأول الذي تحدث عنه الإعلام بين الرجلين (وخصوصاً صحيفة ملييت التركية في حينها) حصل في عام 2003، في عزّ الاستعدادات العالمية لاجتياح العراق. حينها، كان سماح تركيا للولايات المتحدة باستخدام أراضيها وأجوائها (من خلال قاعدتها الجوية «إنجرليك» خصوصاً) لاحتلال بلاد الرافدين، موضوعاً مركزياً بالنسبة إلى جميع الأطراف. كان حكام حزب «العدالة والتنمية» لا يزالون جدُداً في الحكم، فظهر الارتباك سريعاً عليهم؛ من جهة، كانوا يدركون قيمة الحليف الأميركي بالنسبة إليهم، ومن جهة أخرى يعلمون مدى خطورة احتلال العراق خارج إطار «الشرعية الدولية» وبلا قرار عن مجلس الأمن الدولي، إضافة إلى خوفهم من مغبّة اندلاع حرب طائفية في هذا البلد، واحتمال إنشاء دولة كردية في شماله على الحدود التركية، ومحاذير تقسيم البلاد وما قد ينشأ عنه من مفعول دومينو في دول أخرى مجاورة لتركيا. فعلَت الحيرة فعلها، فحصل ما يتفق عدد كبير من المراقبين على تسميته شبه الانشقاق السري داخل «العدالة والتنمية»، بين معسكري أردوغان زعيم الحزب في حينها، وغول رئيس الحكومة. وفي النهاية، جرت لعبة شهيرة، حين قدّمت حكومة غول مذكرة إلى البرلمان تطلب منه فيها الموافقة على مشاركة تركيا في الحرب، بحماسة شديدة من أردوغان، وذلك في جلسة 1 آذار 2003. أما غول فكان، بحسب الأستاذ محمد نور الدين، معارِضاً للمشاركة في الحرب وتقديم التسهيلات للأميركيّين، لكنه قدّم المذكرة إلى البرلمان وعمل على إسقاطها، وهو ما حصل بالفعل.
والمرة الثانية التي سجّل فيها المراقبون خلافاً جوهرياً بين غول وأردوغان، كانت في خلال الإعداد للتعديل الدستوري الكبير الذي جرى الاستفتاء عليه في 12 أيلول الماضي. تعديل كان من بنات أفكار أردوغان، وتضمن مشروعه تغييرات جذرية، أهمها الحدّ من صلاحيات المؤسسات القضائية، وتعديل قانون الأحزاب بما يمنع حظرها بسهولة من قبل المحكمة الدستورية، إضافة إلى رزمة تعديلات وصل عددها إلى 23 مادة، وإلغاء المادة 16 من الدستور. حينها، حصلت مفاجأة كبيرة عندما أسقط نواب من «العدالة والتنمية» مواد رئيسية من مشروع التعديل، موجِّهين صفعة قوية إلى وجه أردوغان ومجموعته، وهو ما وُضع حينها في خانة معارضة غول لها، من خلال إيعازه إلى النواب المحسوبين عليه من «العدالة والتنمية» بالتصويت ضدها، وهو ما حصل بالفعل، فطارت تعديلات مهمة جداً، أبرزها يتعلق بإصلاح قانون حظر الأحزاب، وطريقة تأليف الأجهزة القضائية وإخضاعها للسلطتين التشريعية والتنفيذية.