I للجمهورية أساطيرها، والجيش في مصر أكبرها وأهمها. جنرالات صغار خطفوا ليلة 23 تموز 1952 السلطة والجيش معاً، متيّمين بأتاتورك، صانع الدولة التركية الحديثة، جنرال خاض حروباً من أجل بلاده، وانتزعها من بين أنياب الخليفة، لينقلها في واحدة من العمليات الكبرى خارج محيطها، وتاريخها وثقافتها، لتصبح تركيا دولة حديثة.

الإعجاب بأتاتورك، كما ظهر في كتابات ناصر والسادات (مبارك لم يكن يسمح لنفسه بالإعجاب فهو مع السير على المنوال، والطيران تحت الرادار، واختيار المكان الآمن، لا المغامر). لكن الجنرالات أنفسهم خضعوا لبرنامج التربية السياسية في جماعة الإخوان المسلمين.
قدم هنا وقدم هناك، ووعي مبعثر على موديلات تجمع كلها بين الاستبداد، ومصلحة الشعب. بين حرية البلاد وقهر العباد، بين التحديث الغربي والمفاهيم الشرقية للنظر الى الحاكم. الوعي المشطور بين الشرق والغرب، الحداثة والهوية، والدين والدولة، الديموقراطي والاستبداد، لم يحسم شكل الدولة، ولم يساعد الجنرالات على بناء دولة بالمعنى الكامل. مؤسسات لكنها ليست مؤسسات، إقطاعيات، وعلاقة غير متوازنة بين الرئيس والدولة. الرئيس يأكل الدولة، ويهضمها، ويتمثلها، ويصبح هو الدولة بنحو أكثر فتكاً ممّا كان عليه لويس الرابع عشر حينما قال: «أنا الدولة».
II
«الكل في واحد» أو «المستبدّ العادل»، أفكار رومانتيكية تمنح لأساطير جمهورية الجنرالات بُعداً أخلاقياً. فكرة آتية من بعيد، من لحظة تناسخ خاصة مع مفهوم الفرعون (في مصر
الفرعونية) أو الحاكم الإله، مالك كل شيء، مدير الحياة وخالقها، وموزع الفرص ومنفّذ العقوبات. الإمبراطوريات المؤمنة أنزلت الحاكم من السموات ومنحته صفات ألوهية، لكن من دون عبادة مباشرة. تقديس لكنه خفي على صاحبه.
يبقى إذاً الملمح الديني في العمق، مقيماً في تركيبة مشروع الدولة، متوازناً بنحو ما مع الطابع الحديث، ومانحاً لعلاقة الحاكم مع الشعب ملمح الإله البشري، لا يناقشه أحد ولا يختلف معه، لكنهم يطالبونه بالعدل، لا يخشى المجتمع من استبداده، بل من غياب العدالة.
الرئيس هنا حكيم ومانح، ووجوده سرّ الاستقرار ووحدة البلاد. هذه ملامح دولة مركزية، ورثت إدارة تتناسخ من عصور سحيقة، لكنها تسعى إلى «لامركزية»، منذ أعلن السادات في أول السبعينيات التحول من الشرعية الثورية إلى الشرعية الدستورية، ومن الحزب الواحد إلى تعدّد الأحزاب.
التحول لم يتم، واللامركزية أكلتها المركزية، لتضاف ثنائية جديدة غير محسومة: كيف تقام دولة لا مركزية في مصر؟
كيف يصبح الرئيس مديراً لا زعيماً، موظفاً لا بطلاً استثنائياً يبحث عن بطولة يحكم باسمها؟ لم يحدث في مصر انتقال من «الرئيس الاستثنائي» إلى الرئيس العادي، لأن الفرعون دائماً يبحث عن شرعية أكبر من التي يمنحها المجتمع المدني. لهذا يخضع للابتزاز ويغير في الدستور ليلائم طموحاته، فيضيف السادات مادة «الشريعة الإسلامية»، مصدراً وحيداً للتشريع ضرباً للقواعد اليسارية للدولة ومغازلة لجمهور الجماعات الإسلامية. ثم يعدّل مبارك المادة ٧٦ ليضمن بها منع الإخوان المسلمين من خوض الانتخابات الرئاسية.
لم يسمح للمجتمع بعيداً عن أهواء السلطة بوضع دستور جديد يضع أساسيات دولة مدنية حديثة. كلها رغبات سلطة في وضع تصور إلهي للحاكم. ويردّ عليها المجتمع باللجوء الى الله بما هو القوة العليا، لينصرها على الفرعون الحاكم. وهذه علاقة تفسد الحاكم والمجتمع معاً.
III
الجنرالات حكموا مصر 58 سنة، أفراداً يرتكزون على مؤسسة تقيم في المنطقة الغامضة: تتحكم ولا تحكم، تسيطر ولا تظهر أصابعها. غموض يعطي قداسة، وحضور يشبه مؤسسات الكهانة، فالجيش مؤسسة يعرف المجرب قمعها للإرادة الشخصية بكل ما أوتيت من عنف وشراسة. أساليب ترويض تساقطت مع الحداثة، لكنها فاعلة، وطبيعية لمن يرى أن المؤسسة لا يمكن نقدها أو الاقتراب منها، بالضبط كما يحدث للدين ومؤسساته وآلهته وكهنته. الحضور المقدس يضيف إلى المؤسسة هيبة عند قطاعات تطمئن لوجود المؤسسة التي رغم حداثتها تعتمد أساساً على حضورها القديم.
الحداثة تدار برابطة من القيم المحافظة، والعقل الذكي يعمل في مجال حيوي من ثقافة لم تبلغ الحداثة او تقبلتها في سياق اضطرار لا اقتناع. ولهذا وجدت الحداثة من يفككها في مؤسسة الجيش نفسها، وخصوصاً بعد هزيمة حزيران، والكشف عن فساد أخلاقي بين قيادات جهاز الاستخبارات.
هنا التقطت التنظيمات الأكثر راديكالية في معاداة الحداثة، صيدها من الهزيمة، اصطادت جثة الحداثة وسحبت المجتمع الى مملكة «الوهم»، حيث التفسير المريح لكل المشاكل السياسية والاجتماعية على أنها «عقاب إلهي»، ليدخل المجتمع في حالة نادرة من الشعور بالعار من كل ما حلم به (الدولة الحديثة القوية ـــــ العدالة الاجتماعية ـــــ المساواة على أساس المواطنة) ولتترجم تنظيمات الأصولية هذا الشعور الى حسابات جارية في بنك الصراع السياسي حتى تصل الى إعادة صوغ المجتمع على هواها من الأفكار والعلاقات الى الأزياء وأشكال الوجوه.
حداثة الجيش قاومت، واستمرت في كونها مؤسسة عصية على الخضوع الكامل لجاذبية مملكة الوهم، حتى بعد نجاح عبود الزمر في تكوين وحدات اغتيال وصلت للرئيس السادات. الجيش الآن يلتقي مع الإخوان في نقطة الثقافة المحافظة سياسياً، الحذرة في حلولها، والبعيدة عن راديكالية الحلول الجذرية.
الجيش لم يستطع تحمّل تغيير نسبة العمال والفلاحين لأن هذه ستثير الشعب، كما تخيل، ورغم أنها نسبة من نسب ضبط المجتمع وترتيب خريطته السياسية في الستينيات، وليست حقيقة مطلقة، رفض الجيش الاقتراب منها، لكي لا يفقد مهارة الترويض، وفي الترويض يلتقي الجيش مع الجماعة، وليس في أبعد من ذلك. الجماعة بالنسبة إلى الجيش أداة ترويض لقطاعات، والجيش بالنسبة إلى الجماعة أداة اعتراف. الإخوان يرون أنه فرصة، قد تكون ملعونة، ينتهي فيها أقدم تنظيم سياسي عاش في السر، ويتهدّد وجوده عندما يخرج الى العلن.