دم من جديد، هكذا انتهت جمعة التطهير والمحاكمة بقتيل و71 جريحاً. الصدام لم يكن مفاجأة كاملة، فارق السرعات بين الجيش والثورة لا بد أن يؤي الى التصادم، الجيش يريد وضع الثورة على قضبان النظام، والثورة تريد الطيران الى نظام جديد. كلاهما لا يمتلك جهازاً سياسياً مدرباً، ولهذا جاء الصدام في لحظة عشوائية، لحظة فراغ بين ترتيبات المجلس العسكري البطيئة، والشعور العمومي بأن روح الثورة تتبخر، وعادت الملايين الى ميدان التحرير لتعلن أن قوة الشعب لا تزال موجودة، رغم تبعثرها، وتفكّكها، واستمرار غياب الرأس الواحد.
العودة الى المليونيات، إعلان بأن روح الثورة لم تدخل في متاهات البحث عن رأس، وأن المجلس لا يحكم بتفويض، بل بمهمة ينفذ فيها إرادة الثورة. المجلس بطيء، كما كان مبارك بطيئاً، لكن مبارك كان عدواً من اليوم الأول، بينما المجلس حليف، وشريك في اليد الواحدة التي تبني مصر.
المجلس بعقل الأب الطيب، والسلطوي الناعم، أراد امتصاص الثورة والسيطرة على جموحها، وهو ما خلق حيرة حقيقية بين أوساط الثوار: المجلس معنا أم ضدنا؟ مع الثورة المضادة أم الشعب؟ متواطؤ، أم متمهل؟ جدل خلق فراغاً في العلاقة بين الثورة والجيش نما فيه الطابور الخامس.
II
الطابور الخامس ملامحه مصرية
اكتشاف خاص من رجال عبروا العصور السياسية. قد يكون إبراهيم كامل مثلهم الأعلى، تربى في مصانع تربية الدولة الناصرية، ومنها عبر الى أعمدة نظام مبارك، باعتباره جسراً بين المال والسلطة الخفية، رجل أعمال «بتاع كلو»، يعمل في الملفات الرائجة: عقارات، سياحة، بترول، ويتخصص في ملف فريد «تصنيع طائرات الركاب».
يحتل موقعاً غامضاً في بنية السلطة المرتبطة بالرئيس، اسمه يحاط بدائرة غامضة ومهيبة، أو بحماية لا أحد يعرف مصدرها، وتقام عبره شبكات علاقات مع مؤسسات بيزنس دولي، (أميركية وبريطانية)، لديه ارتباطات بمؤسسات سيادية في الدولة، لديه شبكة علاقات مع موسكو وأميركا وعواصم عربية، يبدو فيها يد الدولة، أو واجهتها التي بمرور الزمن واتساع النفوذ وامتداده، أصبحت هي كل شيء، واجهة للنظام أو لاعباً خفياً في مشاريعه الأساسية، يبدو إبراهيم كامل مهندس الطابور الخامس أو مدير عملياته.
قد يكون غيره، لكن الجيش اصطاده وحده من بين من أصبحوا يسمّون «فلول» الحزب الوطني، وهم أنفسهم كانوا واجهته، أو محركات ماكيناته. الانتقال من المحميات السياسية الى الفلول، يبدو درامياً لشخص مثل إبراهيم كامل، وقف نهار «موقعة الجمل» على إحدى البنايات القريبة من ميدان التحرير وأشار الى مذيعة محطة أميركية: «كل هذا سينتهي اليوم». لم يكن يقرأ الغيب، كان أحد صنّاع الموقعة وينتظر بطولة في إعادة مبارك الى مقعد القوة، هو بارع إذاً في استخدام خلطة تقنيات من الستينات والعشر سنوات الأولى من القرن العشرين للسيطرة على عقل الشارع، أو توجيهه، أو السيطرة عليه، من موقعة الجمل الى موقعة المشير، كما سميت أحداث ليلة جمعة التطهير. كان إبراهيم كامل لاعباً رئيسياً في عمليات تفكيك الثورة، مرة بالهجوم المباشر عليها من ميليشيات بلطجية بدائية، ومرة أخرى باختراقها عبر بوابة النقاوة الثورية، تسللت عناصر قادرة على جذب حثالة الثورة، أو هامشها الذي لم يجد احتضاناً من نخب الثورة وجماعتها المتناثرة إما في حلقات اجتماعية أو سياسية.
عناصر مرت في الفراغ لتصنع طابور «الباحثين عن دور»، ويتصورون أنهم صنّاع الثورة، يقتحمون اجتماعات ويرفضون أن يتحدث أحد غيرهم: أين كنتم ونحن ننام في عراء الميدان؟ يقولون هذا في أوساط صنعت الثورة، وشاركت في بناء الجسور اليها، ويحتلون المنصات ليزايدوا على الجميع بمراثي وبائيات ورثاثة حالة شخصية.
هبط قادة الطابور من أماكن غامضة وصنعوا من هذه الرثاثة والمزايدات كياناً، حشر نفسه في جسد الثورة باعتباره رمز هوامشها والشعب الذي صعد «البهوات» على كتفيه. أداء غامض التبس في انتحاريته مع الراديكالية النقية، ومع إخلاء الميدان انتشر الطابور في مقاهٍ محيطة بالميدان، يجذب الممتلئين شعوراً بالظلم والاضطهاد، وعبرهم انتشرت شائعات عن الثورة: الائتلاف باع الثورة واكتفى بالظهور على الشاشات، وأخرى تثير الرعب: جهات غامضة تخطف وتحقق (لديها نفس طرق الموساد).
حرب نفسية لا تؤثر إلا لحظات الفعل وهو ما حدث في جمعة التطهير عندما اصطحب الطابور الخامس 12 ضابطاً بملابسهم العسكرية الى قلب الميدان. وهذه كانت ذروة عمليات تهدف الى تحويل الارتباك في علاقة الجيش بالثورة الى مواجهة، وعنيفة.
وهو ما قاد الى دماء وموقعة ستنقل الثورة الى نقطة جديدة.
III
الثورة ليس لها رأس سياسي، لكن جسدها يكون جهاز مناعته على الأرض. ورغم أن فتنة الضباط أربكت الثورة، شقت صفوفها بين فريقين أحدهما يعتمد على براغماتية الحكماء: لا يجوز أن نخسر الجيش، والآخر يسير بالراديكالية الثورية الى النهاية: الشعب يريد إسقاط المشير. وبينهما أصوات ضعيفة منهكة، تقول كلمتها بصعوبة وتضع الجيش في موقعه، كقوة محافظة تنفذ عملية الانتقال بإرادة الثورة، والثورة في أزمتها: ليس لها تنظيم قوي، والأهم الآن تنظيم قوتها الحية.
الطابور الخامس قاد الثورة الى شوارع جانبية وأسئلة فرعية عن أحقية الضباط في النزول إلى الميدان بملابسهم العسكرية، وأحقية الجيش في فض الاعتصام الذي يحميهم بالقوة. العنف المفرط، رسالة ارتدّت على الجيش واضطر إلى النفي ليمر من مأزق الحادثة الأولى من نوعها: الجيش يضرب المدنيين بالرصاص.
الدم أشعل المنطقة الرمادية التي لعبت فيها الفلول بواسطة الطابور الخامس. أحرقها، لكنها قد تحرق إمكان الثورة على تكوين جسمها الصلب من جديد، كيف سيتحمل جسد الثورة الاختلاف بشأن الجيش؟ كيف سيتكوّن وعي صلب لقوى ثورية تكونت على الأرض وتتعرض لإنهاك يومي من ثورة مضادة وتحريض شعبي ضدها؟ ربما تفعل كلمة مبارك أمس ما لم تفعله الدعوات الى العودة الى روح الميدان، وتجمع ما فرّقته فتنة الضباط؟ وربما اتساع سكان عنبر الحاشية في سجن طرّة يضعف من الثورة المضادة ويريح الثوار الى أن رموز النظام في القفص... ربما.