القاهرة | شعارات الثورة في كل مكان، في اللافتات الإعلانية والملصقات على السيارات، اسم 25 يناير يتحول إلى أيقونة مقدسة، وإلى سلعة تجارية أيضاً على البطاقات والأعلام تذكّر بتسليع غيفارا، و«بركة» على عربات الفول والحلويات. في المحصلة، تظهر الثورة مخلّصاً وأسطورة تماثل الأسطورة الفرعونية عن «أوزيريس» الذي قتله أخوه «ست» واستولى على مُلك مصر.مزّق «ست» جسد «أوزيريس» ووزّع أشلاءه على جميع مقاطعات مصر، وبدأت «إيزيس» رحلة مضنية لتجميع أشلاء جثة زوجها، لتنجح في ذلك، ويحنّط «أنوبيس» إله التحنيط الجثة، ويعيده «رع» إله الشمس إلى الحياة لمدة يوم واحد وتنجب منه «إيزيس» ولدها «حورس»، الذي يفاجئ عمه الغاصب ويقضي على حكمه، ويُخضعه لمحاكمة عادلة برئاسة الإله «جب». ربما هذه الفقرة الأخيرة هي الناقصة حتى الآن من أسطورة 25 يناير، التي تدعو الجماهير الثائرة إلى التظاهر من أجلها في الميدان.
الصورة الوردية الحالمة يعكّرها حديث سائق التاكسي: «العيال بتوع الثورة دول أولاد وسخة، همّا عايزين إيه كمان؟ ما هو مبارك غار وخلاص». يشتكي الأسطى محمود من عدم الاستقرار والمشاكل الاقتصادية الناجمة عنه ويحمّل مسؤوليتها للثوار وجُمَعِهم المليونية: «ده سعر القوطة (البندورة) بقى بـ7 جنيه يا باشا». تدخل في نقاش معه ولا يغير رأيه. هو يمثل فئة متململة تنشد الاستقرار ولقمة العيش، وقد يكون متأثراً في رأيه بالتلفزيون الحكومي، الذي لا يزال يمارس تحريضاً كبيراً على الثوار في ميدان التحرير، لكن الأهم أنه يدق جرس الإنذار للثوار من فئة شعبية تضيق بما يحدث وتدخل في عداء مع الثورة بسبب ما ترى أنه تعطيل لدوران العجلة الاقتصادية و«تخريب للبلد».
الميدان يعود مسرحاً للثورة، والتظاهرات المليونية تعود في كل جمعة لتأكيد قوة الثورة وشرعيتها وحضورها على الأرض. شباب الثورة يلمسون تباطؤاً في محاكمة رموز النظام السابق ويرغبون في الضغط في الشارع لتسريع هذه المحاكمة، ويدركون تململ فئة معينة من تظاهرهم في الميدان. ويرى بعضهم أن هذه الفئة تحتاج إلى إبداء الثوار تعاطفاً واضحاً مع معاناتها الاقتصادية يترجم عملياً إلى تحرك لخفض الأسعار ومكافحة الغش التجاري، فيما يرى آخرون أن المشكلة الأهم هي في غياب التواصل مع هذه الفئة، ما يجعلها عرضة لدعايات مضادة للثورة يطلقها التلفزيون الحكومي وبقايا النظام البائد.
لكن التواصل لا يحصل إلا بوجود تنظيم واضح لشباب الثورة، يطلق خطاباً موحداً ومؤثراً تجاه هذه الفئة وبنحو سريع قبل استخدامها من أهل «الثورة المضادة» لإحداث فتنة شعبية وتخريب الثورة. والتنظيم حتى الآن غائب إلى حدّ كبير، ويقتصر على التظاهرات المليونية من دون أن يتجاوزها لتكوين خطاب إعلامي مضاد للدعاية التحريضية.
الميدان يوم الجمعة يتحول إلى ما يشبه الكرنفال الشعبي، نساء ورجال وأطفال من كل مكان حضروا من أجل تطهير البلاد من مبارك وعائلته وأعوانه، والروح الشعبية المصرية المبهرة تظهر في الساحة في جو من المحبة العارمة وحرص الكل على الكل. الباعة منتشرون أيضاً لبيع الأعلام والشعارات والمشروبات الغازية، ومئات الآلاف يتقاطرون على الميدان في مشهد تحرمك الشاشة من ثلاثة أرباع إبهاره.
قرار يوم الخميس بإحالة زكريا عزمي إلى التحقيق لا يشفي غليل الجماهير المحتشدة ولا يكفي بالنسبة إليهم، هم مصممون على محاكمة «الرأس الكبير» وباقي العصابة. يصلّون الجمعة ويرفعون الأكف بالدعاء لحفظ البلد ومحاسبة الظَلَمة والقَتَلة، وتتوزع المنصات على امتداد الميدان، وفي كل منصة خطابات وهتافات ثورية، وأغان وقصائد وطنية، وروح حماسية عالية.
تبتهج أنت العربي كثيراً بحسن الاستقبال والفرحة بوجودك، وتبتهج أكثر حين تجد أن نصف الهتافات والخطابات في «جمعة التطهير» تتحدث عن فلسطين وغزة والثورات العربية في كل مكان. هتاف «من مراكش للبحرين... شعب واحد مش شعبين» يسعدك، الهتاف ضد الديكتاتوريات العربية والانتصار للشعوب في اليمن والبحرين وسوريا وليبيا يطربك، و«الموت لإسرائيل» و«كلمة نقولها جيل ورا جيل... بنعاديكِ يا إسرائيل»، يشعرك بنشوة لا توصف.
خطباء من ليبيا يشعلون الجماهير حماسة، وعلَمان كبيران لسوريا ومصر يجوبان الميدان وسط هتاف مؤيد للشعب السوري في صورة معبّرة. والخطابات ترفض نسيان الثورة في اليمن والبحرين وتصرّ على التضامن معهما، ثم تظاهرة تخرج من الميدان إلى السفارة الاسرائيلية ضد قتل أهل غزة. ورغم اعتراضات هنا وهناك تنشد التفرغ للقضية المحلية، يصر معظم الحاضرين والخطباء على مواصلة الهتاف ضد إسرائيل والحديث عن فلسطين، الذي برأيهم لا يشتت الثورة بل يكملها، وتتعالى الصيحات: «ثورتنا ثورة عربية... وفلسطين هي القضية».
مع كل هذه الصورة الناصعة يبدو التباين واضحاً بين المنصات المختلفة، وبين الجماهير نفسها حول الموقف من الجيش والمجلس العسكري، هناك من يبعثون رسائل مطالبة المشير طنطاوي بسرعة التحرك، وآخرون يحذرونه من مغبة التباطؤ، وفريق ثالث يرفض المجلس ويطالب بإسقاط المشير والاعتصام في الميدان لتحقيق ذلك، وما بين الاتجاهات الثلاثة يبدو واضحاً اهتزاز الثقة بين الناس والمؤسسة العسكرية ومطالبتها بوضوح بمزيد من الإجراءات الضامنة للثورة والمُوَاجهة لأزلام النظام السابق وثورتهم المضادة.
تصعد مجموعة، قيل إنها من ضباط الجيش، إلى المنصة، يخطب أحدهم خطبة نارية ضد المجلس العسكري ويقسم أنه من الجيش وأنه يفدي المتظاهرين بروحه. يحصل الانقسام داخل الجماهير المحتشدة، منهم من يصفق لكلامه، ومنهم من يطالبه بالنزول ويرى أنه ليس من الجيش وأنه يريد زرع فتنة بين الناس والجيش لمصلحة فلول النظام البائد. يجول الضباط على باقي المنصّات ويستمر الانقسام بشأنه.
فريقٌ من أهل الثورة يرون أن استعداء المجلس العسكري تصرف أرعن يفتقد الذكاء السياسي، وأن وجود الضباط المتمردين على المجلس في الميدان يضر الثورة، وهؤلاء يجدون في الجيش ضمانة للمرحلة الانتقالية في غياب قيادة سياسية واضحة للثورة يمكنها الإمساك بزمام الأمور، ويعزون تباطؤ المجلس العسكري لضغوط الخارج وحسابات الداخل المعقدة، التي يمكن التخفف منها بالاستناد إلى التظاهرات المليونية، ولذلك يمكن القول إن المجلس العسكري يحتاج إلى التظاهرة المليونية كل أسبوع ليواصل العمل على محاكمة أزلام النظام السابق بطريقة معقولة تحفظ البلد وتمنع الإحراج، ولذلك يصبح التمرد على المجلس العسكري نوعاً من تشريع الفوضى والدخول في المجهول.
في المقابل، يرى آخرون أن المجلس يتواطأ مع بقايا نظام مبارك، والمطلوب إنهاء توكيله لإدارة المرحلة الانتقالية وتسليم السلطة إلى مجلس رئاسي مدني للحفاظ على مكتسبات الثورة والتسريع في محاكمة الفاسدين والمجرمين، وهم يدعون إلى الاعتصام ضد المجلس العسكري واستكمال الثورة بإسقاطه.
بقي الداعون إلى الاعتصام في الميدان، جاء الجيش ليفرقهم واعتدى عليهم، الدماء سالت في الميدان، ومعظم الضباط المتمردين، ألقي القبض عليهم، ويبقى أن وعي الثوار وتقديرهم للموقف الآن هو ما ينقذ الثورة من خطر إفشالها، فاستمرار الروح الثورية مطلوب كما أن العقلانية مطلوبة أيضاً.