الخرطوم |حاملين معهم رفات أقاربهم الموتى، يستعد الجنوبيون هذه الأيام لموسم الهجرة الأخير إلى جنوب السودان، حيث دولتهم الوليدة. فرغم قلة أعداد الجنوبيين في الشمال بُعيد إجراء عملية الاستفتاء، لن تطيل هذه القلة مكوثها في الشمال، فقد أرجأت لحظة رحيلها إلى حين اقتراب تاريخ التاسع من تموز المقبل، موعد اعتراف المجتمع الدولي رسمياً بميلاد أحدث دولة في التاريخ الحديث.
شعب الجنوب يريد إضفاء شيء من الأصالة على الدولة الوليدة، وإن كان برمزية استصحاب رفات الجدود الذين دفنوا في الشمال. ففي مشهد استنكره سكان إحدى الضواحي الجنوبية لمدينة الخرطوم، تجمّع بعض أبناء جنوب السودان، ترافقهم عدد من النسوة، في إحدى المقابر وبدوا منهمكين في نبش بعض القبور التي تبين لاحقاً أنها تخص أقارب لهم، لانتشال الرفات وإعادة دفنها في الديار الجديدة.
الفعل غير القانوني دفع أفراد الشرطة إلى اقتياد عناصر المجموعة إلى مركز أمني، وفتح بلاغ بحقهم بتهمة التعدي على حرمة الموتى، وفق إفادة مصادر «الأخبار». لكن، وإن كان هذا التصرف غير مقبول رسمياً، يبدو في الإطار الشعبي مقبولاً، حتى في الشمال.
محمد حنفي، شاب شمالي، لكنه من خلال زياراته المتكررة لجنوب السودان، وبالتالي إدراكه وعلمه بعادات الجنوبيين وتقاليدهم، لا يستنكر أن يحمل أبناء الجنوب في الشمال رفات أقاربهم إلى أي مكان يستقرون فيه. ويقول لـ«الأخبار» «المدفونون في الشمال هم أقارب لهم، فكيف يتركونهم خلفهم في دولة أخرى لم تعد دولتهم؟».
ويبدو أن رغبة الجنوبيين في مفارقة الشمال وقطع كل ما يربطهم به من صلات، لم تكن مقصورة على السياسيين فقط، وما حمل رفات الموتى إلّا أكبر دليل على أن الهجرة ستكون أبدية. ويقول أحمد فضل، وهو شاب شمالي، «أنا أوافق على حمل موتاهم معهم، ماذا نريد منهم، لكن قبل ذلك يجب أن يخرج من الشمال كل الأحياء من الجنوبيين».
وقد أشارت كل الإحصاءات واستطلاعات الرأي، التي أُجريت قبل الاستفتاء وسط الجنوبيين في الشمال والجنوب، بوضوحٍ إلى رغبة الجنوبيين في الانفصال والاستقلال عن الشمال، ربما استناداً إلى نقطة أساسية هي أن معظم الجنوبيين، إن لم يكن كلهم، يرون بأنهم كانوا يعيشون في الشمال مواطنين من الدرجة الثانية، وبدا أن الأوان قد آن ليحققوا تلك الرغبة الداخلية، لذا لم يريدوا لأقاربهم الموتى أن يظلوا في بلد ألحق بهم الظلم الاجتماعي طيلة عقود مضت.
وحسب تفسير حنفي، فإن الجنوبيين في الشمال يريدون الشعور بالأمان في كنف الدولة الجديدة، وإن كان الموتى هم مبعث هذا الأمان. وقال «لا بد للمرء من أن ينمّي الشعور بالانتماء إلى الأرض، ولا يتعلق هذا الشعور إلّا بالأجداد، حتى وإن كانوا قد قضوا نحبهم».
وبالنظر إلى التركيبة الديموغرافية لسكان الجنوب، فإنهم يتكونون من قبائل كثيرة حملت معها إرثها من العادات والتقاليد أينما حطت رحلها، وخصوصاً في ما يتعلق بعملية دفن الموتى. لكن الشاب أقرير، الذي ينتمي إلى إحدى قبائل الجنوب ويعمل موظفاً في إحدى مؤسسات الدولة في الشمال، يرى أن هذه العادات «أكل عليها الدهر وشرب».
ويوضح أن «بعض القبائل الجنوبية، وخصوصاً النيلية، تكتفي بالاحتفاظ بحفنة من تراب القبر في نوع من الرمزية للشخص المتوفى، كذلك هناك قبائل أخرى تحمل الرفات كاملة إلى أي مكان تستقر فيه».
إذن لا خلاف حول حق الجنوبيين في أن يحلموا بالعيش في وطن جديد يساهمون في تأسيسه وبنائه، لكن أكثر الناس تشاؤماً ما كان ليتصوّر أن تصل اللهفة والرغبة لدى الجنوبيين في مغادرة الشمال، وقطع كل ما يربطهم به، إلى حد أن يسعوا إلى أخذ كل شيء معهم، حتى لو كان ذلك الشيء هو رفات أقارب تركوا البلاد موحّدة وممتدة من «حلفا» في أقصى الشمال، إلى «جوبا» في أدنى جنوبه. ذهبوا وحملوا معهم ذكريات وعلاقات مئات السنين من التعايش والمصاهرة والهمّ المشترك، تقاسموا فيها «الحلو والمر»، وذاقوا فيها مرارة الأيام وشَهْدها، دون أن تدور بخلد أي منهم فكرة أن يتحوّل الوطن الواحد بعدهم إلى قطرين، ويتفرّق أهله إلى شعبين.
وفيما يُرجع البعض الأمر إلى اعتقادات وطقوس محددة في ما يختص بالموت وعادات اجتماعية أخرى لدى بعض القبائل الجنوبية، يبدو أن العدوى انتقلت إلى الشماليين. إذ تردّدت أنباء عن سعي بعض الأسر الشمالية المقيمة بمدن الجنوب، إلى نقل رفات ذويها الذين قضوا في الحرب ودفنوا هناك، إلى الشمال. حتى أن البعض في مدينة جوبا اتخذوا خطوات عملية، وتقدموا بطلب إلى حكومة الجنوب للسماح لهم بنبش رفات أهلهم ونقلها للشمال، ما يعني أن تداعيات الانفصال الحقيقية قد بدأت الآن في الظهور على ارض الواقع. ويبقى الجانب الاجتماعي والإنساني هو أكثر ما يقلق المراقبين على مستقبل الوطن الجديد بعد تقسيمه.



أعلنت الوساطة القطرية والدولية لعملية السلام في دارفور، أمس، أنها ستسّلم في 27 نيسان الجاري طرفي النزاع مشروع وثيقة السلام في الإقليم السوداني لدراستها وإقرارها لاحقاً في مؤتمر موسّع في أيار.
وقال وزير الدولة القطري للشؤون الخارجية أحمد بن عبد الله آل محمود والوسيط الدولي جبريل باسولي، في بيان مشترك، أنهما وجّها «رسائل رسمية لرؤساء الوفود المفاوضة طلبا فيها الإسراع في إنهاء المشاورات بغرض الوصول إلى اتفاق حول المسائل المطروحة».
(أ ف ب)