منذ الأيام الأولى للحرب التي استعرت في ليبيا، تقدّم الرئيس الفنزويلي، هوغو تشافيز، بمبادرة الى صديقه الزعيم الليبي معمر القذافي، تتمثل في خطة وساطة تقضي بإرسال بعثة سلام دولية لتسوية النزاع الدائر بين المعارضة والسلطة في الهضبة الأفريقية. لكن هذه الوساطة، التي طرحها تشافيز على القذافي في اتصال هاتفي مطلع آذار الماضي، قوبلت برفض السلطة الليبيّة والمعارضة وبعض الأطراف الدولية المعنية بمتابعة الأزمة.
ففيما أعلنت قناة «الجزيرة» الفضائية أن الزعيم الليبي والأمين العام لجامعة الدول العربية، عمرو موسى، وافقا على خطة تشافيز، التي تقضي بإرسال بعثة وساطة إلى ليبيا تضم ممثلين لدول في أميركا اللاتينية وأوروبا والشرق الأوسط، سعياً إلى حل سلمي بين القذافي والقوات المتمردة على حكمه، نفى موسى أن يكون قد وافق، مشيراً الى أن الجامعة العربية لا تزال تبحث العرض. أما موقف القذافي فقد تكفّل بإعلانه نجله سيف الإسلام، قائلاً «قادرون بما يكفي على حل قضايانا بأنفسنا. ليس هناك حاجة لأيّ تدخل أجنبي».
بدوره، قال المتحدث باسم المجلس الوطني الانتقالي في بنغازي، مصطفى الغرياني، «لن نقبل أبداً بالتفاوض مع أي كان على دماء شعبنا. الشيء الوحيد الذي يمكن أن نتفاوض بشأنه مع تشافيز هو رحيل القذافي الى فنزويلا».
وعلى الصعيد الدولي، كان الموقف الفرنسي هو الأبرز، إذ أعرب وزير الخارجية، آلان جوبيه، عن رفض بلاده لاقتراح تشافيز بالتوسط، معتبراً أن أي وساطة يكون هدفها إبقاء معمر القذافي في الحكم ليست محل ترحيب ومرفوضة.
ربما كانت المبادرة الأكثر إثارة للجدل في هذا السياق، «خريطة الطريق» التركية. فرغم رفض المسؤولين الأتراك في البداية الإفصاح عن وجود وساطة لديهم لحل الأزمة الليبية، عاد رئيس الوزراء رجب طيب أردوغان ليتحدث عن «خريطة طريق» تسعى إليها أنقرة لإنهاء الأزمة.
تزامنت هذه المبادرة مع «خريطة طريق» مماثلة ولدت ميتة، كان وفد الاتحاد الأفريقي قد عرضها على الزعيم الليبي الذي وافق عليها، فيما رفضتها المعارضة في بنغازي.
وما بين خريطتي الطريق المذكورتين كان «ملك ملوك أفريقيا» يقوم بمبادرات دبلوماسية يعرضها على أصدقائه، منها تولّي أحد أبنائه السلطة لمرحلة انتقالية، وأخرى تقضي بوقف إطلاق النار وبقاء الأمور على ما هي عليه. بمعنى آخر، تقسيم البلاد بين شرقٍ تحكمه المعارضة وغربٍ يبقى في يد القذافي. مبادرات القذافي لم تجد آذاناً صاغية، لا في اليونان ولا في تركيا أو مالطا، الدول التي زارها مبعوث الزعيم الليبي نائب وزير الخارجية، عبد العاطي العبيدي.
وفي ما يتعلق بالمبادرة الأفريقية، قام وفد أفريقي (يضمّ رؤساء كل من جنوب أفريقيا جاكوب زوما، وجمهورية مالي أمادو توماني توري، وموريتانيا محمد ولد عبد العزيز، والكونغو دينيس ساسو نغيسو، ووزير خارجية أوغندا هنري أورييم أوكيلو)، بزيارة الى طرابلس وبنغازي هذا الشهر. ثم توجه إلى الجزائر لاستكمال البحث بشأن إيجاد حل سلمي للأزمة في الهضبة الأفريقية.
وتمكن الوفد من انتزاع موافقة على مبادرته من القذافي الذي يبدو تأثيره واضحاً بقوة على القرار في عدد من الدول الأفريقية التي أغرقها بالدنانير الليبية على مدى سنوات. وبدت ثقة طرابلس بجاراتها في القارة السوداء، من خلال إصرارها على التوصل «إلى حل في إطار أفريقي بعيداً عن أي تدخل خارجي». لكن هذه المبادرة لم تلق القبول لدى المعارضة في بنغازي، التي استبقت زيارة الوفد بإعلانها رفض العرض «ما دام القذافي وأبناؤه لم يتنحّوا عن الحكم».
لقد حاول الاتحاد الأفريقي قبل هذه الجولة على الأطراف، إنقاذ وساطته، وتفعيل خطته بدعوة ممثلين عن النظام الليبي وآخرين عن الثوار إلى مقره في العاصمة الإثيوبية، لكن ثوار «ائتلاف 17 فبراير» رفضوا إرسال وفد إلى الاتحاد الأفريقي، وحضر وفد يمثل النظام الليبي فقط.
وإذ لم يكشف عن مضمون المبادرة بالكامل، ولا سيما في مسألة تنحّي القذافي عن السلطة بحجة «أن يبقى الأمر سرياً»، إلا أنها تنصّ على «الوقف الفوري للأعمال العدوانية»، وتسهيل نقل المساعدات الإنسانية إلى السكان، وإطلاق حوار «بين الأطراف الليبيين» بشأن فترة انتقالية. ثم تأمين «حماية الرعايا الأجانب بمن فيهم العمال الأفارقة في ليبيا».
وتشترط المبادرة تزامن الفترة الانتقالية مع «إصلاحات سياسية ضرورية للقضاء على أسباب الأزمة الحالية، مع أخذ التطلعات المشروعة للشعب الليبي إلى الديموقراطية والإصلاح السياسي والعدالة والسلام والأمن في الاعتبار، وكذلك إلى التنمية الاقتصادية والاجتماعية». ومرت خريطة الطريق الأفريقية بمحطات عدة قبل وصولها إلى مرحلتها الحاسمة، والبدء بعرضها على طرفَي الصراع، فقد وافق مجلس السلم الأفريقي عليها في العاشر من آذار الماضي في العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. ثم اجتمعت اللجنة المؤلفة من خمسة رؤساء في العاصمة الموريتانية نواكشوط في 19 آذار الماضي، لوضع اللمسات الأخيرة على الخريطة، وللتوجه جميعاً إلى ليبيا.
وسعى القائمون على المبادرة إلى إعطائها مسحة دولية، بدعوة ممثلين للاتحاد الأوروبي والجامعة العربية ودول منظمة المؤتمر الإسلامي، إضافة إلى وزراء خارجية الدول الأعضاء في لجنة الاتصال التي شكلت لمتابعة الوضع في ليبيا، والتي تضم جنوب أفريقيا والكونغو وموريتانيا ومالي وأوغندا، إلى حضور الاجتماع الذي انعقد في الخامس والعشرين من الشهر الماضي.
أما بالنسبة الى الوساطة التركية، فقد أعربت حكومة «العدالة والتنمية» عن استعدادها للقيام بدور الوسيط بين العقيد الليبي وزعماء الثوار للتفاوض على وقف لإطلاق النار.
وبدا التحرك التركي، الذي لم يصل بعد الى بلورة وساطة واضحة، نابعاً من خوف المسؤولين في أنقرة على رعاياهم الذين يتجاوز عددهم 30 ألف موظف وعامل في ليبيا.
لذلك، كان الدور التركي لا يتمتع بالصدقية الكافية بنظر المعارضين في بنغازي، وخصوصاً أن إحدى أفكار رئيس الوزراء، رجب طيب أردوغان، كانت تقضي بتولي أحد أبناء القذافي السلطة لمرحلة انتقالية.
لكن كلمة وساطة وردت على لسان أردوغان للمرة الأولى من ناحية الجهوزية للقيام بها، حين قال «إنّ تركيا مستعدة للتوسُّط في وقف إطلاق النار»، محذراً من أنّ الصراع الطويل يمكن أن يُحوّل البلاد إلى عراق ثانٍ أو أفغانستان أخرى.
وأضاف أردوغان إن بلاده تتطلع إلى خريطة طريق تحقق الحرية والديموقراطية للشعب الليبي، وتقوم على وقف إطلاق النار وانسحاب القوات الموالية للقذافي من المدن التي وصلت إليها، والعمل على إجراء تحول ديموقراطي.
موقف الثوار من أنقرة وصل الى ذروته حين رفضوا تسلّم مساعدات تركية وصلت على متن سفينة إلى ميناء بنغازي، معتبرين الرفض رداً على موقف أردوغان الذي حذر فيه من توريد أسلحة للثوار خشية تزايد خطر «الإرهاب» في شمال أفريقيا.
بيد أن حرص المسؤولين الأتراك على أن «أي قطرة دم ليبية أثمن من أي قطرة نفط»، حسبما قال أردوغان، وتشديدهم على ضرورة الحفاظ على «وحدة الأراضي الليبية» دفع المعارضة إلى إرسال موفد الى أنقرة للاستماع الى المسؤولين هناك بهذا الخصوص.
وفي أنقرة التي وصل إليها العبيدي، بعد عودته من أثينا، تحدث وزير الخارجية التركي أحمد داود أوغلو، عن جهدٍ تركي لتحقيق هدنة، وخريطة طريق للإصلاح السياسي بما ينهي معاناة ليبيا، وقال إن بلاده في اتصال أيضاً مع المعارضة الليبية. وتزامن وصول العبيدي الى أنقرة مع زيارة إلى العاصمة التركية قام بها الأمين العام لحلف شمالي الأطلسي، أندرس فوغ راسموسن، الذي التقى أردوغان، وبحثا الأزمة الليبية.
وقال مسؤول في وزارة الخارجية التركية، إن «كلا الطرفين أبلغانا ببعض الأفكار عن وقف إطلاق النار». وتحدث عن اتصالات تجريها تركيا مع المعارضة الليبية عبر قنصليّتها في بنغازي، وقال «سنتحادث ونرى إن كانت هناك أرضية مشتركة لإعلان وقف إطلاق نار».
هذه المبادرات التي لم تؤت ثمارها بعد، سبقها حراك ليبي قام به مبعوث القذافي العبيدي، الى أثينا، حيث قال وزير الخارجية اليوناني ديميتريس دروتساس، في بيان «يبدو من تصريحات المبعوث الليبي أن النظام يبحث عن حل»، فيما أوضح مسؤول في الحكومة اليونانية أن الجهود الدبلوماسية تشمل استكشاف كيفية ترتيب هدنة، لكنه وصف الوضع بأنه «صعب للغاية». وقال إن هناك الكثير من الشكوك وعدم الثقة بين الجانبين.
ولم تتوقف المساعي الرسمية الليبية عند حدود أنقرة، بل تجاوزتها الى مالطا، الجارة البحرية للجماهيرية والرئة التي تتنفس من خلالها في الأزمات. فقد غادر العبيدي تركيا إلى مالطا التي أبلغته عبر رئيس الوزراء، لورانس جونزي، أنه «يجب على القذافي وعائلته التخلي عن السلطة».
وتبين في ما بعد أن هدف إيفاد مبعوث القذافي إلى أوروبا هو اختبار مدى تقبل الحكومات الغربية لطرح أحد أبناء العقيد خلفاً لوالده في إطار مقترح لإيجاد حل للأزمة الليبية.
وكانت صحف أميركية قد نشرت أن اثنين على الأقل من أبناء الزعيم الليبي، هما الساعدي وسيف الإسلام، عرضا رحيل والدهما عن السلطة، والانتقال إلى ديموقراطية دستورية، على أن يتولى أحدهما المرحلة الانتقالية.
وما بين خريطتي طريق مسدود ـــــ على ما يبدو ـــــ ظهر مبعوث الأمم المتحدة الخاص، عبد الإله الخطيب، في الجماهيرية، للاستماع الى مسؤولي السلطة والمعارضة على حد سواء.
وقد يكون أفضل تعبير عن الواقع الذي تعيشه الهضبة الأفريقية، في ظل زحمة الوساطات الفاشلة، تقرير الخطيب إلى مجلس الأمن الذي أفاد فيه بأن كلا الطرفين من الحكومة ومعارضيها أظهر استعداداً للقبول بوقف إطلاق النار، تحت إشراف مراقبين، لكنه قال إن البيانات التي أصدرها الجانبان لاحقاً أثارت شكوكاً بشأن استعداد الطرفين لقبول وقف للقتال.