اليرموك | بدأ المشهد بسواد جلّل شوارع المخيم والأزقة والنوافذ. أحمرّت حدقات النسوة من النحيب وهن يقفن في طابور الخبز، أو حتى يطفن في سوق الخضر. لم أجرؤ، وأنا ابن التاسعة، على أن أشاكس في السؤال عن تجهّّم وجوه الرجال إلى حدّ الفاجعة. كلما توغلت في المخيم تناهت إلى مسامعي أغاني «العاشقين»، واسترقت السمع فأدركت أن هناك شهيداً جديداً، لكنه «مختلف». بكل بساطة، «جماهيري» أكثر. الدموع انهمرت أيضاً من أعين أساتذة «الوكالة» حين صرفونا إلى بيوتنا، فانطلقنا لاكتشاف أبعاد السواد في الأزقة والوجوه. كانت فرصة لـ«اللف والدوران».. ساعة بعد ساعة ضجّّ المخيم بالناس يتدفقون من كل حدب وصوب، من كل شارع وزقاق؛ عشرات، مئات، آلاف، مئات الآلاف، «يوم الحشر»، فاغري الأفواه بعيون دامعة يحدقون إلى الملصق الذي بدا فيه «خليل إبراهيم محمود الوزير» يشير بكفه مستفهماًً.
ساعات اشتدت فيها الشمس بانتظار الجثمان في يوم رمضاني، فأفطر الشيوخ أولاًً بشرب الماء لتهدئة الحناجر التي تورّّمت من البكاء والهتاف. رجال الأمن «مهذبون» على غير العادة، توقفوا عن تدوين ملاحظاتهم في قصاصاتهم الصفراء.. الأسطح تعجّ كما الدروب بالخلق والغبار والعرق والهمس والزغاريد، وهتاف واحد وحّد المشهد: بالروح بالدم نفديك يا شهيد. وحين أطلّ جثمان الشهيد، «حرره» المشيّعون من عربة المدفع الرسمي، وودّّعوه بالأكف تلامسه، إن استطاعت، وهو ينزلق رويداً رويداًً في طواف الوداع على المخيم. وأمطرت سماء اليرموك في 20/4/1988 أرزاً وزهراً وعطراًً، ورصفت شوارعه بآلاف الأحذية و«الشباشب» و«الزنانيب» ـــــ أجلّكم . يوم نادر ارتضى فيه الشعب أن يمزق علمه الوطني مراراً ويبدّّله كلما مزّّقته الأيدي وهي تحاول اصطياد «بركة» من التابوت الخشبي المغطى بالألوان الأربعة،. هو يوم يقينيّ صار فيه المخيم كتلة حية اهتزت أركانه بصوت «بحر الحناجر». لم يرتجف وهو يردّد: لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة.. كلما اشتقت إلى اليرموك أو افتقدته زرت، كما يفعل غيري، «أمير الشهداء»؛ القائد الذي يرقد بين جنوده. ألمس الرخام الذي يحفظ «بوصلة الشعب» التي مزقتها رصاصات سبعون، فارتدت على من أطلقها قذائف للذاكرة نلقيها إلى خلف خط الحدود. خليل الوزير «أيقونة» لذاكرة اليرموك الفتية. كان حليفاًً للمخيم أينما وجد، «عهدتنا إلى حين عودتنا»، نصيبنا من «أيام العز» التي وحّدتنا كما تتوحّد «البلاد» بخضرتها. لا يزال بيننا، يجاور سوق الخضر ونجاوره، يحرس ذاكرتنا ونحرسه. لا نزال نؤمن بـ«البشارة» التي لم تعد «بدعة» فلسطينية، دخل في ركبها بسطاء العواصم والمدن. لا تزال أحرفها برّاقة بعد 23 عاماًً: لا صوت يعلو فوق صوت الانتفاضة.. ونحن ليس لنا إلا أن نتبع الشهيد إلى «آخر المشوار»، إذ نكافأ على إيماننا «هوية وحرية».