عمان | فتحت أحداث العنف التي شهدتها مدينة الزرقاء الأردنية يوم الجمعة الماضي خلال اعتصام للسلفيين الجهاديين، الباب للحديث مجدداً عن حجم التيار السلفي الجهادي وقوته في الأردن، الذي شهدت ساحته خلال السنوات العشر الماضية، كما باقي الدول العربية، صعوداً ملحوظاً لهذه الجماعات التي تدور مع أفكار «القاعدة» وحركتها، ما مثّل تحدّياً أمنياً داخلياً وخارجياً جدّياً.
وبالرغم من قدرة الأجهزة الأمنية الأردنية على إحباط عدد كبير من مخططات تيار السلفية الجهادية، واختراقه ومحاكمة المئات من أفراده، إلا أن عناصر هذا التيّار تمكنوا من تنفيذ عمليات في العمق الأردني، أبرزها الهجوم الصاروخي على بوارج أميركية في مدينة العقبة (جنوب) في آب من عام 2005، الذي أدى إلى مقتل جندي أردني وجرح آخر، والهجوم الانتحاري المتزامن على ثلاثة من فنادق عمّان في تشرين الثاني من العام نفسه، الذي أوقع 60 قتيلاً ونحو مئة جريح. وقد تبنى هذه العملية الأردني المتشدد أحمد فضيل الخلايلة، الملقب بأبو مصعب الزرقاوي، الذي قاد تنظيم «القاعدة» في العراق قبل أن يُقتل عام 2006.
وإذا كان أبو مصعب الزرقاوي الأردني قد مثّل ظاهرة «فوق أردنية»، وزعيماً قوياً داخل «القاعدة»، فإنّ هنالك أسماء أخرى لا تقل في دورها عالمياً عن الزرقاوي، لكن على صعيد التنظير الفكري، مثل أبو قتادة الفلسطيني وأبو محمد المقدسي. هذا «الحضور الأردني» على صعيد التنظير والحركة للقاعدة يدفع إلى سؤال حيوي عن حالة التنظيم داخل الأردن، ومدى انتشاره الاجتماعي، وأفكاره، وتحديداً بعد مقتل الزرقاوي.
يمكن القول إن البداية الحقيقية للسلفية الجهادية الأردنية تبلورت خلال عقد التِّسعينيات من القرن المنصرم، بالتزامن مع جملة من التَّحولات الدولية والإقليمية والمحلية؛ فمع انتهاء الحرب الباردة والنظام الثنائي القطبيّة في عام 1991، أُعلنت في الأردن عودة الحياة الديموقراطيّة والتَّعددية وإلغاء الأحكام العرفيّة، والبدء في برنامج التَّصحيح الهيكلي بإشراف البنك الدّولي.
وقد كشفت نتائج الانتخابات النِّيابية الأولى عقب الانفتاح والتَّحول الدِّيموقراطي (1989) عن قوةِ الحركة الإسلاميَّة ومدى نفوذها وحُسن تنظيمها، إلا أنها كشفت، في الوقت نفسه، عن بروز السّلفية الجهاديّة في الدّاخل بعد عودة «الأفغان الأردنيّين»، الذين أحسوا منتصرين بالزّهو والقوّة. وتعززت السلفية الجهادية بعودة أكثر من 300 ألف مواطن أردني من الكويت ودول الخليج عقب حرب الخليج الثانية 1991، كان من بينهم عدد من الذين تشبَّعوا بالأيديولوجيَّة السلفيَّة الجهادية.
العلاقات المعقدة التي نسجت بين السلفية الجهادية الأردنية والتيارات السلفية الجهادية العالمية، يمكن ملاحظتها من خلال ثلاث شخصيات أردنية كان لها الأثر الأكبر في بيان هوية التيار ورسم استراتيجيته العملية، هم: أبو قتادة الفلسطيني، وأبو محمد المقدسي، وأبو مصعب الزرقاوي، بدءاً من انسحاب السوفيات من أفغانستان، واشتعال الحرب الأهليّة بين فصائل المجاهدين، وانتهاءً بحرب الخليج الثانية، وبداية ملاحقة الأفغان العرب في بيشاور.
وقد اختار أبو قتادة الفلسطيني اللُّجوء إلى بريطانيا، واختار المقدسي الاستقرار في الأردن، أما الزرقاوي فقد اختار المشاركة في الموجة الثانية من معارك الحرب الأهليّة بين فصائل الجهاد الأفغاني، وكانت هذه الفترة قد شهدت عودة أعداد من المقاتلين الأردنيّين من أفغانستان، الذين انخرطوا في عددٍ من التّنظيمات الجهادية، كجيش محمد والأفغان الأردنيين.
وكان تنظيم «بيعة الإمام»، وهو ثمرة التقاء الزرقاوي بالمقدسي، البداية الفعلية للسلفية الجهادية الأردنية، حيث تكاملت الخبرة النّظرية للمقدسي بالخبرة العمليّة للزّرقاوي، وعملا على استقطاب عدد من الأتباع، وكانوا يطلقون على أنفسهم اسم «الموحدين»، أو جماعة «التّوحيد».
ونجحت الأجهزة الأمنيّة الأردنية في تفكيك التنظيم وتقديمه للمحاكمة، إلا أن مسارات النشوء السلفي الجهادي أخذت منعطفاً آخر في عملها، أكثر صلابةً، خلال وجودها في السجن، وبدأت مرحلة جديدة.
ويبدو أن مجتمع السِّجن عمل على تعميق اقتناع أعضاء التّنظيم بأيديولوجيتهم السلفيّة الجهاديّة، فعملت على تقوية الرّوابط التّنظيمية والشّخصية. وعلى الرغم من وجود إسلاميّين آخرين في مجتمع السجن، إلا أن تنظيم «بيعة الإمام» استطاع أن يفرض نفسه بقوة في هذا المجتمع المصغّر.
في مرحلة السّجن، أصبحت السّلفية الجهادية تعلن أيديولوجيتها الصّارمة بصراحة من دون خوف أو حساب. وباتت مفاهيم كفر الدّولة وشرك المجالس النيابية، وردة الأنظمة، والحاكمية، والطاغوت، والولاء والبراء، وغيرها، شائعةً ومعروفةً، ومثّلت المحاكمات العلنيّة فرصةً للانتشار والتوسع، ولعلّ مجتمع السجن وفّر وقتاً ومساحة واسعةً للدعوة والكتابة والتأليف والتجنيد.
وفيما كانت جماعة «بيعة الإمام» في السجن، كانت الجهادية السلفية تنشط في بثِّ دعوتها وتجنيد أعضائها، وتعمل على توسيع قطاف عملها، وبدأت تظهر مجاميع سلفيّة جهادية، من أبرزها حركة «الإصلاح والتحدي» التي ظهرت عام 1997، واتهم أبو قتادة الفلسطيني بقيادتها من مقرّه في لندن. وفككت الأجهزة الأمنيّة جماعةً من السلفية الجهادية في «البقعة» في أيلول 1998.
كان التواصل بين السلفية الأردنية والجهادية العالميّة يجري بسهولة ويسر، وكانت الأموال كذلك تصل من جهاديي أوروبا. وعلى الرغم من استفادة السلفية الجهادية من مرحلة السجن واستغلالها نظرياً وعملياً، إلا أنها أفرزت بداية الخلاف بين الزّرقاوي والمقدسي؛ فقد تبلورت خيارات كلٍّ منهما بنحو مختلف؛ إذ آثر المقدسي اتباع استراتيجية بعيدة المدى تقوم على نشر الأيديولوجيا السلفية الجهادية، والتّمسك بالبقاء في الأردن، والعمل على نشر الدعوة من دون الدخول في صداماتٍ مسلحة مع النِّظام، وعدم تفريغ البلد للالتحاق في جبهاتٍ جهاديّة في الخارج.
على صعيد المقاربة الرسمية الأردنية في مواجهة السلفية الجهادية، هناك رؤية نقدية في طبيعة تعامل الدولة مع الظاهرة، التي أولت الجانب الأمني أهمية أكبر؛ فبحسب الباحثين، تطوّرت استراتيجية الدولة في مواجهة صعود الحركة السلفية الجهادية خلال أكثر من عقد ونصف من الملاحقة والمتابعة، إلا أن الغالب على هذه الاستراتيجية هو «الطابع الأمني»، الذي يعتمد على قدرات الأجهزة الأمنية على اختراق المجموعات وملاحقتها ورصدها، من دون الالتفات بصورة كافية إلى العامل «الوقائي»، أي الحدّ من الشروط والأسباب والعوامل البيئية المختلفة المحفّزة على صعود هذا التيار ونشاطاته.
شهدت مرحلة ما بعد «تفجيرات عمان» محاولة للتركيز على الشِق الثقافي والإعلامي من خلال «رسالة عمّان» أولاً، ثم الندوات الفكرية والمؤتمرات التي تنبه إلى خطورة التطرف و«الإرهاب». إلا أنه غلب على هذه الأنشطة والفاعليات الجانب الدعائي والشعاراتي بعيداً عن محاولة وضع استراتيجية منهجية ملموسة لتطوير الحياة الثقافية والوعي الديني. كذلك هناك نقد لضعف تركيز الدولة على بناء مقاربة تنويرية فقهية وفكرية عامة، وعجزها عن فتح المجال لصعود رموز فكرية وفقهية معتدلة تمتلك صدقية وشعبية وتقدم خطاباً يدفع نحو فهم عصري متقدم للإسلام.

أحداث الزرقاء

لم يسجل عن السلفيين الجهاديين في الأردن انخراطهم في الحراك السياسي الذي شهده الأردن خلال السنوات الماضية، ويرفض أعضاؤه أشكال الحراك الذي تنفذه القوى السياسية والاجتماعية في المملكة، مثل المسيرات والاعتصامات. ويُعرف عن هذا التيار تقوقعه على نفسه، لكن مع انطلاق الحراك الشعبي المطالب بالإصلاحات السياسية في الأردن بداية العام الحالي، فجّر السلفيون الجهاديون مفاجأة كبيرة عندما نظموا، للمرة الأولى في تاريخهم، مسيرة حاشدة وسط عمّان في شباط الماضي للمطالبة بالإفراج عن معتقليهم في السجون الأردنية، ومنهم محكومون بقضايا تمس أمن الدولة. وتكررت مسيراتهم واعتصاماتهم وصولاً إلى يوم الجمعة الماضي الذي أثبتت أحداثه شراسة السلفيين في مواجهة القوى الأمنية.
الباحث المتخصص في شؤون الحركات الإسلامية، حسن أبو هنية، عزا اعتداء أعضاء التيار السلفي الجهادي على الشرطة والدرك، خلال اعتصام الزرقاء، إلى استغلال التيار السلفي لمناخ الاحتجاجات العربية والمحلية التي شهدتها المدن الأردنية المطالبة بالإصلاح، مشيراً إلى أن التيار بدأ يعلن عن نفسه من خلال هذا المناخ.
وقال هنية: «الحكومة سمحت للسلفيين بالتحرك، حيث كانت في البداية مطالبهم معقولة، لكن التيار السلفي لم يقدر التطورات الجارية على الساحة، ما رفع سقف الشعارات، وتزامن ذلك مع تراجع مطالب الشارع في الإصلاح». ولفت إلى أن المواجهة بين التيار والشرطة كانت حتمية وطبيعية، موضحاً أن هناك فرقاً بين التيارات السلفية على الساحة الأردنية؛ فهناك تيار سلفي دعوي يجاهد بالكلمة، وآخر لا يؤمن بالجهاد السلمي. ودعا الباحث في الحركات الإسلامية إلى التعامل مع التيار السلفي الجهادي من خلال برامج حوارية لنزع صبغة التطرف عنه، لافتاً إلى أن المقاربات الأمنية الوحيدة لا تؤدي إلى نتيجة. وأوضح أن استراتيجية واحدة يجب اتباعها مع هذا التيار، هي الاستراتيجية الصلبة والناعمة، إلى جانب برنامج متكامل، مؤكداً أن ظاهرة التيار لا يمكن أن تتطور في حال الاستجابة إلى الإصلاح، والتباطؤ في الإصلاح يسمح بوجود العنف.
وأجرى الصحافي بسام بدارين مقارنة بين ما حصل في عمّان والزرقاء، مشيراً إلى أنه خلال «أحداث ميدان جمال عبد الناصر، قُمع الإسلاميون المعتدلون بقسوة من البلطجية على مرأى من الشرطة، وثبتوا في مكانهم على طريقة المهاتما غاندي من دون حركة مضادة، رغم أن عددهم كان أكبر بكثير من عدد السلفيين الذين تجمعوا في الزرقاء، حيث انتهت المواجهات بجرح 40 شرطياً، ستة منهم طعناً». وأشار إلى أن «الإخوان المسلمين تجمعوا على دوار الداخلية مع اليساريين للمطالبة بوقف تزوير الانتخابات، أما السلفيون فتجمعوا لتحقيق دولة الخلافة».
وحمّل الناشط الإسلامي مروان شحادة مسؤولية أحداث يوم الجمعة بين الشرطة وأعضاء التيار السلفي للطرفين، مشيراً إلى السماح للمعارضين للتيار السلفي بالحضور في المكان ذاته، واستفزاز المعتصمين من أعضاء التيار السلفي. وقال إن تجربة السلفيين الجهاديين في العمل السلمي فقيرة؛ إذ نجح المناوئون لهم خلال الاعتصام في استفزازهم من خلال سب الذات الإلهية.
وأشار الناشط الإسلامي إلى أن المشكلة لدى السلفية الجهادية هي في عدم رشدها في العمل السياسي المدني. وأضاف: «أعتقد أن السلفية الجهادية تعاني من عدم رؤية سياسية لفكرة الدولة، والمطلوب في مثل هذه الحالة التعايش مع النظام، لكنهم يحملون أفكاراً متشددة، حيث يعدّون الأنظمة غير شرعية». وطالب الحكومة بالتعامل مع هذا التيار وأعضائه برأفة ورحمة «الحوار معهم مهم جداً، ويجب الابتعاد عن التعامل الأمني، هناك طرق منها الحوار، كذلك يجب عدم السماح لهم بالخروج على الدولة والمجتمع، والمسألة هي في إعطائهم سقفاً في الحركة والحرية. السنوات الأخيرة شهدت تشدداً في التعامل معهم من خلال تشديد الأحكام عليهم، ويجب النظر في قضاياهم من خلال محاكم مدنية».
من جانبه، حمّل المحلل السياسي المتابع لشؤون الحركات الإسلامية، فؤاد حسين، البلطجية مسؤولية أحداث الزرقاء، مشيراً إلى أن «الفرق بين ما جرى في دوار الداخليّة، وما حدث للسلفيين هو ضربة كف قبلها الحراك الشبابي، بينما لم يقبلها السلفيون في اعتصامهم».
ورأت الأمينة العامة الأولى لحزب «الشعب الديموقراطي الأردني» (حشد)، عبلة أبو علبة، أن ما حدث في الزرقاء يجب أن «يثير لدى جميع المتابعين للشأن العام أسئلة كبيرة عن مدى نفوذ القوى المعادية للإصلاح وقدرتها على تحريك الفتن النائمة والقوى الظلامية: السيوف البيضاء في مواجهة عدوانية مباشرة لقوى الأمن، ومواجهة سياسية وفكرية مع المشروع الإصلاحي الديموقراطي في البلاد».



اعتقال 136 شخصاً

قرّر المدعي العام لمحكمة أمن الدولة الأردنية، أول من أمس، توقيف 136 شخصاً بتهمتي القيام بأعمال إرهابية وشغب، خلال المواجهات التي دارت الأسبوع الماضي في الزرقاء بين متظاهرين سلفيين والقوات الأمنية، وأدت إلى إصابة 91 شخصاً معظمهم من رجال الأمن.
وقال المتحدث الإعلامي في مديرية الأمن العام، المقدم محمد الخطيب إنه «ثبت تورط 136 شخصاً سُلِّموا للمدعي العام لمحكمة أمن الدولة بتهمتي القيام بأعمال إرهابية والقيام بأعمال شغب، وقرر توقيفهم على ذمة القضية».
وأثبت التحقيق حمل المعتصمين «أسلحة جارحة مثل السيوف والبلطات والأمواس والخناجر والهراوات والقضبان الحديدية»، بحسب الخطيب، مضيفاً أن هؤلاء «قاموا بأعمال فوضى وشغب على دوار المعسكرات تخللها الاعتداء بالضرب والطعن على عدد من المواطنين ورجال الأمن».
وأشار إلى أنهم كانوا قد سيطروا قبل الاعتصام على مسجد عمر بن الخطاب في الزرقاء «ما أدى إلى نشر الخوف لدى المصلين». وكان أنصار التيار السلفي قد تظاهروا للمطالبة بإطلاق سراح عدد من المحكومين من التيار.