درعا | السادسة والنصف صباحاً في دمشق. الحياة طبيعية بكل ما للكلمة من معنى. الناس إلى يومياتهم. أطفال المدارس يخرجون من المنازل إلى مدارسهم بلا مرافقة الأهل. إنه الدليل الأقوى على الشعور بالأمان. تدلف السيارة بالصحافيين جنوباً. يتسع الأفق كل ثانية لينفتح بعد نحو نصف ساعة على سهل لا حدّ له. إنه سهل حوران الجميل. بعد مسير نحو 70 كيلومتراً من الطريق الفاصلة بين العاصمة السورية ودرعا، ينقطع بث الاتصالات الخلوية. دخلنا المنطقة العسكرية. على جانبي الطريق التي يسلكها عادة من أرادوا التوجه نحو الأردن، لا شيء سوى السهل، بألوانه النقية، ورعاته وأغنامه وحجارته البركانية السوداء. حركة السير تلامس حدّ الانعدام.
قبل درعا بنحو عشرة كيلومترات، حاجز للجيش السوري. وصول صحافيين بإذن أمني رسمي لا يترك للحاجز أي أثر عملي عليهم. دخلنا درعا. إنها الثامنة صباحاً. المشهد مناقض تماماً لما يجري في دمشق. المدينة بلا ناس. آثار جنازير المدرعات العسكرية ترسم طرقات الإسفلت.
لم تُنظَّف الشوارع منذ أيام. ورغم ذلك، بقيت درعا بلا رائحة. نحن في الأحياء الأكثر حداثة في درعا المحطة. اللوحة الحجرية الضخمة التي تحمل صورة الرئيس السوري بشار الأسد ووالده قرب ملعب كرة القدم لا تزال على حالها، كما على جدران المقار الرسمية في هذه المنطقة. منازل بواجهات حجر صخري أبيض، تصطفّ على جانبي الطريق. التوغّل في الشوارع يزيد وحشة الزائر. تخفّف منها سيدة تقف على شرفة منزلها مرتدية ثوب الصلاة، وثلاثة أطفال يعبرون الشارع بصمت، حاملين ربطات الخبز فوق رؤوسهم.
لا آثار لمعارك أو حرائق في هذه المنطقة. في مبنى المحافظة، يُكثر المحافظ الجديد من الحديث عن «أمن شعبنا الذي حاولت العصابات الإرهابية العبث به. كانوا يفرضون الخوّات على الناس الذين طالبونا بتدخل الجيش». في المبنى ذاته، ضباط كبار من الجيش، يكشفون للصحافيين أن القوات العسكرية السورية ستبدأ «منذ اليوم، الانسحاب من درعا، بعدما أنجزنا مهمة القضاء على العصابات الإرهابية». يعبّر مصوّر وكالة الصحافة الفرنسية عن سروره لكونها المرة الأولى التي يتحدث فيها ضابط سوري برتبة عالية إلى وسائل الإعلام أمام الكاميرا. إنه اللواء رياض حداد، مدير الإدارة السياسية في الجيش. إلى جانبه ضابط برتبة عماد، لكنه لا يضع شارات رتبته على كتفيه. يؤكد أن «القوى الأمنية لن تُطلق النار على متظاهرين سلميين، وأنه لم يُطلق النار سابقاً إلا على من كان يُطلق النار. يضيف: الأوامر قضت باستخدام الأسلحة الخفيفة حصراً في وجه مطلقي النار. لم يُسمَح للأجهزة الأمنية باستخدام أي قذائف». لماذا المدرعات والدبابات إذاً؟ يجيبنا العماد المجهول الهوية: «تحريك المشاة بحاجة إلى حماية، والمدرعات تحمي الجنود، لكننا لم نستخدمها».
الصحافيون يريدون الوصول إلى الجامع العمري، رمز الاحتجاجات في درعا. دقائق من الاتصالات الهاتفية العسكرية قبل أن ترد الموافقة. المسجد في درعا البلد، المدينة القديمة المبني جزء لا بأس به منها بحجارة سوداء، يفصلها عن درعا المحطة وادٍ صغير. بين مبنى المحافظة ودرعا البلد، تظهر أكثر فأكثر آثار الأيام التي مرت على المدينة: بقايا الإطارات المحترقة في الشوارع، وبعض «السواتر» المزروعة وسط الطرق. كل المباني الرسمية أو التابعة لحزب البعث متفحمة: منزل المحافظ، مبنى الإذاعة والتلفزيون، قصر العدل، مبنى إدارة مكافحة المخدرات، مركز المكننة التابع لوزارة العدل...
الناس لا يزالون في منازلهم، والعدد الهائل من المحال التجارية لم يفتح أبوابه بعد. تجوب جرافة طرقات المدينة برفقة عمال النظافة الذين يريدون إزالة ما في الشوارع من أتربة ومخلفات الحرائق التي فعلت فعلها في المنطقة الفاصلة بين المحطة والبلد. نصل إلى درعا البلد. الناس يخرجون للتفرج على زوار الغفلة، الصحافيين الذين يحدد لهم الأمنيون الأماكن المسموح لهم بدخولها. المسجد العمري بحجارته السوداء أصغر مما بدا في الصور القليلة التي انتشرت منذ بدء احتجاجات المدينة الحورانية. «لم يمسسه أحد بسوء»، يقول ضابط من الجيش مبتسماً. لا أثر لرصاص على المسجد. «أخرجْنا المعتصمين فيه من دون سفك دماء»، يقول الضابط مضيفاً: «بعد محاصرتهم، نادينا عليهم بمكبرات الصوت فخرجوا. أصلاً، لم يكن فيه مسلحون، استخدموه مشفى ميدانياً». في محيط المسجد، كُتِبَت عبارات التأييد للرئيس السوري. تبدو وليدة اليومين الماضيين. إحداها وصلت إلى أحد الجدران الخارجية للمسجد: «سوريا الأسد» خطّها أحدهم باللون الأحمر.
ضابط آخر يشير إلى خزان المياه الكبير الذي يرتفع فوق منازل البلدة القديمة قائلاً: «هذا هو الخزان الذي ادعى الشهود العيان أننا دمرناه. هل تضرر؟». لا ينتظر جوابنا. يكتفي بالابتسام.
لم يُسمح لنا بالتجوال في درعا البلد، المتشح بعض شوارعها بسواد حرائق الإطارات والسيارات. من أمام المسجد، تظهر آثار إطلاق النار على عدد من المنازل. أما الدمار الذي توقعنا رؤيته في المدينة، فلا وجود له سوى في حائط يتيم أصيب بقذيفة من عيار خفيف (على الأقل، في الحي الذي سمح لنا بزيارته في درعا البلد).
حتى الساعة، رأينا درعا ولم نرَ من أهلها سوى القليل. الجولة الحكومية تصطحب الصحافيين إلى حيث ستمرّ قوات الجيش المنسحبة من المدينة، عند الجسر. عشرات المواطنين تجمعوا حاملين صور الرئيس السوري لينثروا الأرز والورود على الجنود. أكثر من أربعين حاملة جند مدرعة وغير مدرعة، تابعة للفرقة الخامسة، تخرج من درعا. «ماذا لو أخرجتموها من هنا لتُدخلوها من مكان آخر؟». يجيب ضابط: «إذا أردتم الحقوا بها لتتأكدوا توجهها نحو دمشق». ويؤكد ضباط الجيش أن الانسحاب لن يحصل دفعة واحدة، بل على دفعات، «أولاها اليوم (أمس)».
بعيد انتصاف النهار، دبّت الحركة قليلاً في شوارع درعا. بعض المحال التجارية فتحت أبوابها. نسبتها لا تزيد على 5 في المئة، حدّاً أقصى، في المدينة التي تمثّل المركز الإداري والتجاري لمحافظة يعيش فيها أكثر من مليون سوري. معظم ما فُتِحَت أبوابه من المحال يبيع مواد غذائية. على جوانب الطرقات، يجلس الدرعاويون. بعضهم يدخل منزله عندما يرى «الغرباء»، فيما يُكمِل البعض الآخر ما خرج لأجله. في إحدى ساحات المدينة، عاد الناس إلى الجلوس على المقاعد العامة. سيدة منقّبة مع أبنائها، وأخرى تقول إنها لم تكن تجرؤ على الخروج «لأن القناصين كانوا منتشرين على الأسطح قبل دخول الجيش».
بعض الشوارع الرئيسية ضجّت بالسيارات التي لا تزال تتوقف عند شارات السير حيث وُجِدت. شُرطة المرور منتشرة بلا سلاح، لتنظيم السير حيث كاد يزدحم، وخاصة أمام الأفران ومحطّات الوقود.
أحد أصحاب المحال يصرخ غاضباً ليمنع تصوير محله المفتوح: «إذا أردتم القول إني فتحت محلي، فعليكم أن تسجلوا كلامي: لم ننم منذ عشرة أيام». يقترب منه ضابط أمن. يعرّف عن نفسه، فتتبدل لهجة الرجل الذي يطلب من ابنه إحضار الماء البارد للضابط، قبل أن يردد كلام التأييد للرئيس السوري. على بعد شارعين من المحل المفتوح، محل آخر تجمّع أمامه نحو عشرة شبان. أمام الكاميرا، يبدأ شاب ثلاثيني بالكلام: يقول بلهجته التي هي أقرب إلى لهجة الأردنيين: «ما حدا قرّب صوبنا، وما في شي صار عنّا». يسمعه رجل في بداية الأربعينيات. يصرخ بوجهه: «احكِ الحقيقة، ليش خايف؟». يجيبه الآخر: «لست خائفاً، أنا أقول الحقيقة. هنا في المحطة لم يحصل شيء. المشاكل حدثت في البلد». يصرخ الرجل الغاضب بأعلى صوته: «سأحكي ولو ذبحوني. لن أسكت بعد اليوم. اقتحَموا منزلي. هذا إرهاب. كنت أعيش في الخارج، وأريد نقل أمي المريضة إلى حرستا». يبتعد مردداً: «لن أسكت...».
قرب المحل، نسأل شاباً عن عدد القتلى الذين سقطوا في درعا: «والله ما بعرف. في ناس قالوا عشرين، وفي ناس قالوا تسعين». لكن ألم تشيّعوهم؟ يجيب: «أنا لم أشارك في التظاهرات». يقترب منا رجل في منتصف العقد الخامس من عمره. يقول إن عدد القتلى بالمئات. نسأله عن أماكن دفنهم، فيجيب: لا أعرف. أين بيوت العزاء: هل نجرؤ على ذلك؟ وماذا عن المسلّحين الذين يقول الجيش إنه قبض عليهم؟ يجيب: «هذا كذب. لقد أطلقوا النار بعضهم على بعض».
على بعد شارعين منه، يقول شاب عشريني إنه شارك في التظاهرات. وبعد حديث طويل مع الإعلاميين، بعيداً عن أعين الأمن، يقول إن ثمة مسلحين في المدينة، قبل أن يستدرك: «لكن، هل وجود أربعة أو خمسة مسلحين يبرر تدمير المدينة؟».
نسأل أحد ضباط الجيش عن عدد القتلى المدنيين، فيحيل السائل على المحافظ. «أنا أخبركم عن عدد الشهداء العسكريين. سقط لنا 24 شهيداً من الجيش، و12 من الشرطة. أما الجرحى، ففاق عددهم الـ177، معظمهم برصاص القنص». نسأل المحافظ عن عدد القتلى المدنيين، فلا يجيب.
أمام مبنى الإذاعة المحترق، يمرّ رجل خمسيني. يؤكد أنه رأى عشرات المسلحين يُحرقون المبنى. يضيف: كنا نتظاهر سلمياً، لكن بعض الأشخاص أطلقوا النار على رجال الأمن الذين ردوا بالمثل، فسقط القتلى والجرحى. يرفض التقاط صور له قائلاً: «إذا عرفوا ما أقول فسيقتلونني ليلاً». من هم؟ يجيب: «المسلحون الملثمون».
أمام أحد الأفران، تنفي سيدة أتت برفقة ابنها وابنتها لشراء الخبز أن تكون المدينة قد عانت من حصار غذائي. وعندما اقترب منا رجل أمن، توقفت عن الكلام. لكن ابنتها أشارت غاضبة: جايين لهون؟ روحوا شوفوا بالبلد شو صار. حجارة درعا بخير، لكن نفوس أهلها ليست كذلك.