برّرت العديد من النظريات الموقف التركي من الأزمة السورية، بالحاجة الانتخابية التي تلزم حزب «العدالة والتنمية» الحاكم بفعل أي شيء وقول أي أمر لقطف أي صوت في استحقاق 12 حزيران. في المقلب الآخر، «نظرية» تتحدث عن مستلزمات خريطة سياسية جديدة في طور التكوُّن في العالم العربي، لا بدّ أن تكون تركيا حجر الزاوية فيها، وبالتالي لا بد من فك محاور قديمة مع إيران وسوريا لتركيب أحلاف إقليمية جديدة على قاعدة رابطة «الإسلام المعتدل»، تنال رضى الإمبراطورية الأميركية والغرب عموماً.
وتبقى مخاوف تركيا على أمنها القومي الأكثر رواجاً في الدوائر التركية في تفسير سلوك أنقرة ورجالاتها، وهي التي تبرّر نقل ملف الأزمة السورية إلى مجلس الأمن القومي التركي، واتخاذ احتياطات على الحدود التركية السورية الشاسعة، والتحذير المتكرر من تحوُّل الصراع إلى مذهبي ـــــ طائفي قد يضاف إليه الطابع القومي الكردي.
أما الرواية السورية التي فهمت المواقف التركية من الأحداث على أنها ناتجة من توتر ما قبل الانتخابات التركية المقررة في 12 حزيران، فإنه يصعب على الأتراك فهمها؛ أولاً لأنّ الوضع الشعبي والانتخابي لحزب أردوغان أكثر من ممتاز، يقولون، وقد يحصد نتيجة تحطّم كل أرقامه القياسية السابقة، إذ تشير استطلاعات الرأي إلى احتمال أن ينال نحو 50 في المئة من الأصوات. وهنا، يذكّر الأتراك بأنّ هذه التوقعات في استطلاعات الرأي لم تتأثر سلباً أو إيجاباً بالموقف التركي مما يحصل في سوريا. ويمكن إضافة كلام تركي هو بمثابة الاعتراف، يفيد بأنّ الشعب التركي يحمل سمات أميركية، من ناحية أنّ اعتبارات السياسة الخارجية لحكومته تندرج في آخر اهتماماته عندما يريد أن ينتخب. أمر كان جلياً في المشروع الانتخابي العملاق لـ«العدالة والتنمية»، الذي احتل الشق المتعلق بالسياسة الخارجية القسم الأصغر منه مع 10 صفحات من أصل 156. هكذا، يدرك أي مراقب أن خيارات الناخب التركي يحددها أولاً وأخيراً الاقتصاد والهموم المعيشية والأمنية (المسألة الكردية). وحين يجري التشديد في البرامج الانتخابية على شق السياسة الخارجية لتركيا (مثلما يحصل في الترويج لأولوية الانتساب إلى الاتحاد الأوروبي)، فإنّ ذلك يُربَط بأهميته في الشؤون الداخلية، كالتحسن الاقتصادي المتوخى من الانتساب إلى نادي القارة العجوز، وتطوُّر معايير الديموقراطية وتوسيع نطاق الحريات والتخلُّص من سطوة العسكر بفضل تطبيق المعايير الأوروبية. وفي مناقشة حجة السعي الى قطف أصوات في صناديق الانتخابات من البوابة السورية، تجدر الإشارة إلى أنّ طيفاً واسعاً من الإسلاميين الذين يكوّنون البيئة الطبيعية لحزب «العدالة والتنمية» الحاكم، هم من بادر إلى النزول إلى الشوارع وتنظيم التظاهرات المنددة بسلوك النظام السوري. وبالتالي، فإنّ القاعدة الشعبية للحزب الحاكم منسجمة مع موقف حكومتها، علماً بأنّ «العدالة والتنمية» عاجز عن «سرقة» أصوات من منافسه الرئيسي حزب «الشعب الجمهوري» في هذا الموضوع، لأن هذا الحزب لا ينظر بعين الرضى أصلاً إلى «العودة» التركية إلى المنطقة، ولا إلى تعزيز تركيا لعلاقاتها مع دول كسوريا والعراق وإيران، وبالتالي فإنّ الحزب الحاكم عاجز عن منافسة موقف «الشعب الجمهوري» في معاداة الأنظمة العربية، لأنه مهما وصل الأمر بأردوغان وزملائه في انتقاد النظام السوري، فلن يكونوا قادرين على تجاوز موقف المعارضة التركية، العلمانية الكمالية أو القومية المتطرفة أو الكردية طبعاً.
تجدر الإشارة هنا إلى أنّ غياب الحاجة الى اتخاذ مواقف تركية تهدف الى نيل بضعة أصوات في صناديق الاقتراع، لا ينفي حقيقة أنّ العقل التركي بات في شق منه، أوروبي المعايير. فعلى سبيل المثال، شنّت وسائل الإعلام بمختلف اتجاهاتها، حملة شرسة على أردوغان نفسه على خلفية رفضه التنازل عن «جائزة معمر القذافي لحقوق الإنسان» التي منحه إيّاها العقيد الليبي في 2010. أضف إلى ذلك أن جزءاً من الرأي العام التركي غير راضٍ عن مستوى المعارضة التركية للنظام السوري ويطالب بالمزيد، كما أنّ الحساسية لدى الرأي العام التركي عموماً كبيرة إزاء كل ما يتعلق بمشاهد القمع والقتل التي تنقلها الفضائيات العربية والعالمية. من هنا، يدرك جميع الأتراك أنّ دعم أنقرة لنظام الأسد في تعاطيه مع الاحتجاجات الشعبية، أو على الأقل عدم التعليق على ما يحصل في المدن السورية، كان سيُنظر إليه على أنه تغريد خارج تماماً عن سرب الرأي العام التركي.
وفي محاولة البحث عن أجوبة لسؤال لماذا اتخذت تركيا هذا الموقف بالذات من الأزمة السورية، تظهر مشاريع إجابات أخرى منها:
1 ــ أنّ الأتراك فهموا الأمثولة التونسية والمصرية باكراً، على قاعدة أنّ ما يحصل في العالم العربي كبير للغاية، وقد ينافس في أهميته القيمة التي اكتسبتها أحداث 11 أيلول 2001. فهموا أنّ رياح التغيير لا يمكن أن توفّر أحداً في المنطقة، ولا حتى سوريا ونظامها، وهي ترسم خريطة جديدة، وتخلق مراكز قوى كانت مغيّبة عن مشهد السلطة، وتضع ملامح لصراعات جديدة لم يكن لها مكان في القواعد القديمة. انطلاقاً من ذلك مثلاً، سجّل الرئيس عبد الله غول اسمه كأول رئيس أجنبي يزور «مصر الجديدة»، ويجتمع بقادتها العسكريين والسياسيين المدنيين، ويوزّع النصائح عليهم ليجروا انتخاباتهم سريعاً لكي لا يبقى الجيش يدير الدفة السياسية للبلاد.
2 ــ لا ترغب القيادة التركية في بقاء سوريا جرحاً نازفاً على شاكلة حرب أهلية مصغّرة لكن مفتوحة، وما يمكن أن تتركه هذه الحرب من ذيول على منطقة حدودية تتجاوز 800 كيلومتر بين سوريا وتركيا. هي منطقة حدودية زرعتها الحكومة التركية، ممثّلة بالهلال الأحمر، بالخيم لتؤوي النازحين إذا تطورت الأمور سلباً من جهة المناطق السورية المحاذية للحدود مع تركيا.
3 ــ أدرك العقل التركي الحاكم أنّ عواصم غربية وعربية عديدة قد تتحين فرصة تأخُّر القيادة السورية أو تعنُّتها للانقضاض على سوريا، وهو ما يهدّد باستحداث عراق جديد أو ليبيا جديدة مفتوحة على كل التدخلات الخارجية التي لن تنجو تركيا من آثارها. لذلك، لا تتوقف الضغوط التركية على الأسد بهدف إقناعه باستباق الريح الغربية وإزالة موجباتها وذرائعها.
4 ــ في قرار الأتراك ممارسة الضغط على القيادة السورية، تقاطعت مصالحهم العليا مع جزء كبير من شعارات المتظاهرين السوريين بالتغيير والإصلاح والديموقراطية والكرامة والحرية. جزء كبير لا كل الشعارات، بما أنّ القرار التركي لم يرسُ بعد على مطالبة الأسد بالتنحي عن الحكم، رغم الترداد المتكرر للمسؤولين الأتراك من أن الوقت يضيق أمام الأسد، وأنّ علاقتهم مع شعوب المنطقة عموماً، والسوريين ضمناً (بدليل ارتفاع صور أردوغان وأعلام تركيا على شرفات منازل عديدة في محافظتي حمص وحماه في الفترة الأخيرة) أكثر من جيدة، وبالتالي لا داعي إلى القلق من احتمال تغير الأنظمة لأن «تركيا صديقة الشعوب العربية قبل أن تكون حليفة الأنظمة»، ولأنّ تركيا، «عندما تتناقض مصالحها مع ثوابتها، فإنها تختار الثوابت». كلام إنشائي صاحبه مسؤول تركي رفيع المستوى يبقى تصديقه من عدمه خاضعاً لحسن أو سوء نيات المعنيين بالشأن السوري.