صنعاء | يبدو أن خيارات الرئيس علي عبد الله صالح بخصوص حسم الأيام الصعبة التي يمر بها منذ انطلاق ثورة الشباب قد تقلصت في مساحة الخيار العسكري، وذلك بعد ساعات قليلة من إعلان مجلس وزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي تعليق مبادرتهم، لإعطاء «أطراف الأزمة» مزيداً من الوقت لمراجعة حساباتهم.
موقف خليجي ظهر أنه لا يريد أن يقول صراحة، أو يشير باتجاه الطرف الذي وضع العراقيل أمام تنفيذ المرحلة الأولى من المبادرة بتوقيعها من كافة الأطراف، تمهيداً للسير في آلية تنفيذها، على الرغم من كل التعنت الذي فعله الرئيس والعراقيل التي وضعها بهدف عدم حصول الأمين العام لمجلس دول التعاون الخليجي عبد اللطيف الزياني على توقيعه. ليتضح أن كل هذه المماطلة كانت لوضع خطوات جديدة، وإعادة تمركز لقواته في مناطق حساسة في وسط العاصمة صنعاء، وتمثلت في انتشار مجموعات كبيرة لرجال أمن بزي مدني بدأت أولاً في محاصرة مبنى السفارة الإماراتية صباح يوم الأحد الماضي، في أثناء وجود الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي داخله برفقة سفراء دول مجلس التعاون في صنعاء والسفير الأميركي، إضافة إلى سفراء الاتحاد الأوروبي. وهو الموقف الذي دفع الشيخ صادق بن عبد الله حسين الأحمر، شيخ مشايخ حاشد، أكبر القبائل اليمنية وأكثرها نفوذاً، للتصريح بأن ما حدث هو «عيب أسود» في حق اليمنيين، وهذا بالمفهوم القبلي اليمني من أكبر الجرائم التي لا يمكن التجاوز عنها في العرف القبلي، وذلك لأنها ارتبكت في حق وسيط. وأكد أنه على استعداد للقدوم شخصياً لتحريرهم من الحصار.
ويبدو أن هذا التصريح قد مسّ الرئيس صالح شخصياً، وعلى هذا الأساس كان عليه أن يتعامل معه. ففي الوقت الذي أنهى فيه الحصار على السفراء في مبنى السفارة الإماراتية، ونقلهم إلى قصره الرئاسي لحضور توقيع قيادات حزب المؤتمر الشعبي العام للمبادرة، كانت قواته الخاصة وأنصاره المسلحون جيداً يعيدون انتشارهم في منطقة «الحصبة» بوسط العاصمة، حيث يقع منزل الشيخ صادق الأحمر.
وكان من الواضح أن هذا التطور الذي وقع إنما يأتي أيضاً في سياق رغبة الرئيس صالح في إيصال رسالة قوية للشيخ صادق رداً على هذا التصريح الذي قام به بخصوص حصار الزياني، إضافة إلى قوله إنه لا يزال هو الرئيس الفعلي للجمهورية اليمنية، وإن مفاتيح القوة لا تزال في يده، حتى ولو تخلت عنه القبائل التي كانت موالية له.
وهذه الحركة، التي قام بها، جاءت في محاولة من الرئيس نفسه لاستباق المواقف الدولية التي تصدر تباعاً وتدين عدم توقيعه المبادرة، فكان منه أن فكر بتفجير الموقف وإظهار القوة في محاولة إضافية لاستفزاز أنصار الثورة السلمية وجرهم إلى مرعب العنف. كذلك جاء هذا كرد عملي على تصريح الشيخ صادق الأحمر نفسه، الذي قال رداً على خطاب الرئيس صالح الذي حمّل فيه المعارضة مسؤولية اندلاع حرب أهلية «بأنه لا يعتقد بأن يذهب الجنون بصالح إلى هذا الحد، لكن لو قامت الحرب الأهلية فنحن أهلها».
كذلك ظهر في المحصلة أن رغبة الرئيس صالح كانت واضحة منذ اتساع رقعة الاحتجاجات الشبابية في تحويل هذه الثورة إلى أزمة سياسية محصورة بينه وبين آل الأحمر من جهة، وبينه وبين أحزاب اللقاء المشترك من جهة أخرى، وأنه مجرد صراع على السلطة و«انقلاب على الشرعية الدستورية»، بحسب ما يردد صالح باستمرار.
لكن عبر العودة إلى مسألة التصعيد الذي قام به صالح من طريق قواته وأنصاره، لم يكن من الصعب على حراس هذه المنطقة، الموالين لصادق الأحمر، عدم ملاحظة هذا الانتشار، وخصوصاً مع اقترابه ظهر أول من أمس من مدرسة للبنات لا تبعد عن المنزل سوى مئة متر، وظهور عمليات إنزال لصناديق كبيرة تحوي أسلحة ومعدات قتالية، ما أظهر الانتشار على أنه عملية مقصودة من قوات صالح ضد الشيخ صادق.
وبحسب المحلل السياسي اليمني علي الضبيبي، لم يكن متوقعاً أن يبقى رجال الشيخ الأحمر في موقع المتفرج، «وخصوصاً أن هذا الانتشار قد دخل في دائرة الدفاع عن العرض بحسب الأعراف القبلية، وهو ما يجعله بعيداً عن دائرة الاتهام بأنه من بدأ بالهجوم، فكان من الطبيعي أن تندلع الشرارة الأولى».
وكانت الرصاصة الأولى. بداية اشتباكات بين الحراسة الخاصة لمنزل الشيخ صادق الأحمر والقوات الحكومية التابعة للرئيس علي عبد الله صالح. سبع ساعات من الاشتباكات بأسلحة الكلاشنيكوف كانت كافية لقدوم عناصر قبلية تتبع آل الأحمر، التي لا يبعد مكان تمركزهم لمسافة نصف ساعة فقط من وسط العاصمة، حيث يقيمون في منطقة عمران (شمال صنعاء)، وهي معقل قبائل حاشد. ليكون اشتراكهم سريعاً في المعركة ونجاحهم في الاستيلاء على نحو خمسة مبان حكومية، منها مبنى وزارة الصناعة الملاصق لمنزل صادق الأحمر نفسه ومبنى هيئة الإرشاد، إضافة إلى مبنى وزارة الداخلية التي سُيطر على محيطها في وقت متأخر من مساء أمس ومبنى الخطوط الجوية اليمنية. كذلك يقع مبنى وكالة سبأ اليمنية للأنباء في مواجهة منزل صادق، ودُمِّرت ثلاث طبقات فيه، نظراً إلى وجود عناصر حكوميين كانوا قد تمركزوا فيه. أمّا مبنى المقر الرئيسي لحزب المؤتمر الشعبي العام، الذي يقع في المنطقة نفسها، فلم ترد أي أنباء عن استيلاء العناصر التابعين لصادق الأحمر عليه، على الرغم من سهولة ذلك.
عند هذا الحد، توقفت الاشتباكات، أول من أمس، بعد وساطة قام بها رئيس جهاز الأمن السياسي، غالب القمش وقدومه إلى منزل الشيخ صادق محمّلاً بمئة بندقية لوضعها تحت تصرفه بحسب الأعراف القبلية. لكن الشيخ الأحمر رفضها ليطلب ضرورة تسليمه قائد قوات النجدة الذي قال إنه المسبب الرئيسي لاندلاع الاشتباكات.
لكن هذا لم يحصل ليبدأ يوم آخر من المفاوضات في منزل الأحمر أيضاً. لكن سقوط قذيفة على محيط المنزل الذي فيه الوسطاء أمس ومقتل سبعة أشخاص، تردد أن من بينهم الشيخ محمد أبو لحوم، الذي كان يشارك في جهود الوساطة، أعلن نهاية الوساطة لتبدأ مرحلة جديدة وخطيرة من الاشتباكات، وخصوصاً مع وجود مجموعة كبيرة من زعماء أهم القبائل اليمنية التي استنكرت اعتداء عناصر الرئيس صالح على منزل الشيخ صادق أثناء وجود الوسطاء بداخله، وهو ما يعد أيضاً «عيباً أسود»، مستنكراً بشدة في العرف القبلي.
وهكذا ظهر الطريق معبّداً لدخول أسلحة ثقيلة إلى خط سير الاشتباكات، مدافع هاون ومضادات للطيران تقصف المباني المأهولة بالسكان، إضافةً إلى خروج مدرعات ودبابات كانت متمركزة في ساحة مبنى وزارة الداخلية القريب من منزل الشيخ صادق، وقصفت محيطه قبل سيطرة الموالين لصادق الأحمر على المبنى.
وحتى وقت متأخر من مساء أمس، وبعد يومين من الاشتباكات، ظهر الأمر غريباً على سكّان العاصمة صنعاء الذين لم يعيشوا في حياتهم معارك من هذا النوع. ظهروا كأنهم غير مصدقين أن آل الأحمر في طريقهم إلى حرب أهلية حقيقية كانت إلى وقت قريب محصورة في مجرد خطابات حادّة متبادلة من الطرفين، وخصوصاً بعد انضمام أبناء الشيخ الراحل عبد الله حسين الأحمر إلى صف الثورة، ووقوفهم ضد حليف والدهم الراحل.
فحتى في حرب صيف 1994 بين قوات علي عبد الله صالح وقوات الجنوب، لم يعش سكّان صنعاء أجواء الحرب الأهلية، فلم يكن لها نصيب من الحرب سوى بعض الصواريخ التي أُطلقت من الجنوب لتنتقل المعركة إلى هناك حتى حُسمت لمصلحة الرئيس صالح. بناءً على ذلك، هم الآن في حالة من الدهشة وهم يراقبون بدايات حرب أهلية يُستَخدَم فيها، منذ اليوم الثاني، مختلف الأسلحة الثقيلة مع احتمال استخدام صالح السلاح الجوي، الذي بدأ منذ أمس بالقيام بطلعات استفزازية كأنه يقول إنها لن تبقى على الحياد إذا استمر تمدد القوات الموالية للشيخ صادق الأحمر في احتلال المباني الحكومية والتوسع جنوباً باتجاه نصف المدينة الذي تسيطر عليها قوات صالح وأنصاره.
رغم هذه التطورات، يبدو الموقف حتى اللحظة قابلاً للاستدارك، وخصوصاً مع وقوف قوات الفرقة الأولى مدّرع التابعة للواء علي محسن الأحمر على الحياد؛ إذ لم يُظهر موقفاً صريحاً حتى الآن من الاشتباكات الدائرة وتُسمع جيداً في المساحة الجغرافية التي يقع فيها معسكره، مكتفياً بقيام قواته بتمشيط المنطقة ومنع أي تسلل محتمل لقوات علي عبد لله صالح تجاه معسكره.
ووسط هذه الأجواء، بدا موقف شباب الثورة في «ساحة التغيير» القريبة من ساحة الاشتباكات واضحاً في هذا الصراع الدائر، حيث شددوا على أهمية الحفاظ على سلميّة ثورتهم، وعدم جرّها إلى مربع العنف، وذلك بعدم تفاعلهم مع تصريحات أحزاب اللقاء المشترك المنددة بهجوم قوات علي صالح على منزل صادق الأحمر من جهة، وكذلك من خلال رفضهم التصريحات التي قالت إن الوقت صار مناسباً لتنفيذ مرحلة جديدة في التصعيد الثوري والسيطرة على المباني الحكومية التي سقطت في يد العناصر الموالية للشيخ صادق الأحمر، وعدم التماهي مع التصريحات التي صدرت عن مكتبه الإعلامي، والتي أشارت إلى أن الشيخ صادق سيسلم المباني التي سقطت في يد الموالين له لشباب الثورة «باعتبارهم السلطة الشرعية الوحيدة حالياً في البلاد».
وإذا تجاوب شباب الثورة مع هذا الأمر، فلن يكون من الصعب إدراك أن الرئيس علي عبد الله صالح لن يتردد في توسيع دائرة الاشتباكات وتحويلها باتجاه «ساحة التغيير»، تحت دعوى أن شباب الثورة صاروا طرفاً في صراع مسلح، وهي الهدية التي كانت ينتظرها منذ وقت طويل.



«أكذوبة كبرى»

أعرب الصحافي اليمني، محمد المقالح في حديث لـ«الأخبار» أمس عن أسفه لما يشهده اليمن، مشيراً إلى «أنها محاولة من النظام من جهة، ومن بعض الأشخاص الذين انضموا إلى الثورة من جهةٍ ثانية بهدف حرف مسار الثورة وتحويلها إلى عنف وصراع مسلح». وبعدما أكد أن شباب الثورة اليمنية كانوا يعون إلى حد بعيد هذه المخططات، وحاولوا تحاشيها، شدد على أن هذه الأحداث لن تستطيع تبديل مسار الثورة التي سيعود زخمها، مبدياً «اطمئنانه إلى عدم انزلاق البلاد إلى الحرب الأهلية». ورأى أن الحرب الأهلية «أكذوبة كبرى، لأن الحرب الأهلية بحاجة إلى طرفين، أما ما يحدث اليوم، فهو النظام يتقاتل مع نفسه، النصف الأول مع النصف الثاني»، مشيراً إلى أن الشعب ليس جزءاً من الاقتتال. وفي السياق، لم يستبعد المقالح وجود مؤامرة إقليمية دولية دخلت على خط الثورة بهدف ضمان النظام، مقابل التضحية برأسه، مشيراً إلى أن الصراع اليوم لا ينفصل عن الصراع على مستقبل القوى التقليدية التي لطالما تحكمت بالبلاد. لذلك، تحدث عن ثلاثة خيارات أمام اليمن اليوم. فإما أن تتمكن هذه القوى من إيجاد مكان لها في العهد المقبل، أو تنتصر القوى الجديدة، فيما الخيار الأخير يبقى الأقل ترجيحاً، وهو أن تعود القوى القديمة إلى سابق عهدها؛ لأن الذي كان يسيطر على الوضع في السابق لم يعد قادراً على الاستمرار بسبب التغيرات التي أحدثتها الثورة اليمنية.