يرسم بالغبار كفاً على قميصه، ليمدّه نظيفاً. يخطو مبتعداً عن الورشة المحترقة تحت شمس الظهيرة. يسقي قبعته من عرقه. ومن نفَسه، إلى ثيابه، لا تكاد تغيب الورشة خلفه حتى يكمل الانتقال من فيصل إسماعيل معلم الباطون إلى فيصل إسماعيل عضو اللجنة المركزية في الحزب الديموقراطي الكردي (البارتي)، أحد الأحزاب الفاعلة في التحرّكات التي تشهدها المناطق السورية.الحوار معه سريع. يتميز أكراد سوريا بغناهم الحزبي وتعدّديتهم. المشكلة الكردية عموماً مع السلطة السورية قديمة. تبدأ بحرمان نحو سبعين ألف كردي عام 1962 الجنسية السورية، ما أفقدهم وعائلاتهم حقّ التملك والتعليم والتقاضي والعمل والصحة والانتخاب والحصول على جواز سفر. ولا ينتهي بمشروع «الحزام العربي» في محافظة الحسكة، حيث استغلت السلطة بناء سد الفرات وإعادة توزيع الأراضي الزراعية لتمنح مساحات شاسعة من الأراضي على ضفة السد لعشائر عربية حلت محل الأكراد، في ظل اجتهاد السلطة السورية في تعريب الأسماء الكردية لآلاف القرى والبلدات، بموازاة قمع الحركة السياسية الكردية واعتقال ناشطيها، فضلاً عن عدم الاعتراف بعيد النوروز أو السماح بتعليم اللغة الكردية لغةً إضافية في المدارس، حيث الأكراد غالبية. نحن، يقول فيصل، نعبّر عما نريده بصراحة: الحقوق لنا والديموقراطية للشعب السوري.
يتوزع أكراد سوريا بين الجزيرة العليا حيث الثقل الرئيسي من ديريك (المالكية) إلى (القحطانية) فالقامشلو (قامشلي) وعامودا ودرباسية ورأي العين وعين عرب، ومنطقة عفرين شمال حلب (أكثر من 500 قرية)، ومدينة حلب نفسها، التي يمثّل الأكراد النازحون إليها من القرى المجاورة أكثر من ثلث السكان. ودمشق التي للأكراد فيها أحياؤهم (ركن الدين، وادي المشاريع، كسوة، حي الإذاعة، حي قرى الأسد)، إضافةً إلى عشيرة البرازية في مدينة حماة ونحو 13 قرية في محافظة جسر الشغور، وبالتالي فإن مناطق النفوذ الكردية كبيرة ومؤثرة وقادرة في حال خروج احتجاجات جدية أن تشغل النظام على مساحات واسعة، لكن اللافت أن الأكراد، الذين غالباً ما أنهكوا النظام السوري في اعتصام هنا وتظاهرة هناك وطرد للسلطة من هنا وهناك، ما زالوا يتّسمون بالهدوء في هذه المرحلة، و«يتفرجون» من بعيد على الاحتجاجات التي تشهدها بعض المناطق السورية. وقد سقط رهان من أمَلوا تحوّل عيد النوروز يوم 21 آذار الماضي إلى موعد لانطلاق التحركات الاحتجاجية الأكثر جدية، في حلب وضواحي دمشق. لا بل تصرفت السلطة بذكاء يومها واحتضنت الأكراد في عيدهم، فتحولت المناسبة من نقطة ضعف للسلطة إلى نقطة قوة.
يرفض فيصل إسماعيل التعميم، ولا سيما أنه أحد الناشطين الميدانيين. ويؤكد أن الجزيرة تشهد تظاهرات أسبوعية، توصل رسالة إلى النظام تشدد على ضرورة الانتقال بالبلد إلى الديموقراطية. وقد نظّم المحتجون الأكراد أكثر من اعتصام وصمدوا حتى تحققت مطالبهم بالإفراج عن بعض المعتقلين السياسيين، في ظل تأكيد فيصل عدم معرفته بوجود اتفاق بين النظام السوري والمسؤولين في إقليم كردستان ـــــ العراق يبقي الأمور هادئة في المناطق والأحياء الكردية. ويرفض الكلام عن «مخاوف كردية ـــــ أقلية من حكم الأكثرية»، في حال سقوط نظام الأسد، مشيراً إلى أن أي تغيير في السلطة سيكون لمصلحة الأكراد لا العكس.
ويروي فيصل أن السلطة السورية ترفض التواصل مع الأكراد كمجموعات سياسية أو عرقية، وتصر على أن تختار بنفسها ممثلين عنهم، تفاوضهم وتناقشهم وتتفق في النهاية معهم على أمور الأكراد. حتى حين زار الرئيس بشار الأسد الجزيرة مرتين أخيراً، فضّل الاجتماع بالوجهاء الذين لا يمثلون إلا الضباط الذين عيّنوهم، بدل الاجتماع بالأحزاب والقوى التي تمثل المجتمع وتجرؤ على طرح هواجسه. ويقول فيصل إن الحركة الكردية السياسية مستعدة تماماً لتقديم وفد يمثل كل الأكراد لا منطقة أو مصالح أو مجموعة. وبحسب المعلومات فإن المكلفين بالترتيب للحوار الوطني عقدوا عدة اجتماعات غير معلنة مع فاعلين في الأوساط الكردية. مع الأخذ بالحسبان أن حضور المؤيدين للسلطة، سواء وسط الأحزاب الكردية أو بين المواطنين الأكراد، كبير ويكاد يضاهي نفوذ المناوئين للسلطة، الذين يؤيدون اليوم بمعظمهم الحوار مع السلطة.
وبحسب فيصل فإن إعادة السلطة الجنسية السورية إلى مستحقيها أسهمت في إبعاد الكثير من الأكراد عن الشارع، لكن ذلك لا يلغي وجود مجموعات كردية تتحرك للحصول على تعويضات للأكراد عما خسروه نتيجة حرمانهم الجنسية، وللمطالبة بالديموقراطية، مشيراً إلى أن الأكثرية الكردية تعتقد أن معظم السوريين «تفرجوا» عليهم يتعرضون للقتل عام 2004، ولن يتحركوا بالتالي حتى يثبت هؤلاء جدية التحرك للمطالبة بالتغيير ويعتصموا في الساحات. حينها فقط سيقول الأكراد كلمتهم. التغيير، يقول فيصل إسماعيل، يبدأ من دمشق، لا من القامشلي.