كانت الحافلة تشق طريقها إلى الحدود الفلسطينية، من مار إلياس حتى مارون الراس، المكان الذي توقف فيه عقل رئيس الأركان دان حالوتس عن التفكير عام 2006 أمام أصحاب الرايات الصفر الخارجين من الأرض. تتوقف الحافلة بنا أيضاً. نعبر التلال مشياً من بنت جبيل حتى مارون الراس. بدأ الجليل الغربي يظهر، بدأت فلسطين تظهر، لكن بآليات إسرائيلية. ثمة جنود يختبئون وراء الأشجار. كان موسم العصافير. الشباب الفلسطيني دون الثلاثين ينزل إلى البحر. لم تكن تظاهرة على الحدود. كان بعض الصبية يعتقدون أن الوادي مكان للتدريب على الموت، كما تعلّموا التدرب على الغربة في المخيم. الرصاصة تجتاز الحاجز آتية من فلسطين، لتستقر في رأس شاب فلسطيني في الجنوب اللبناني. هكذا كانت فلسطين تستقبل أطفالها.نعم إنه موسم العصافير، عصافير المخيمات بكل ألوانها السياسية والحزبية. من أربعة حدود كان الفلسطينيون يتسربون إلى فلسطينهم؛ من لبنان، الأردن، مصر، سوريا. لم تكن فلسطين الموجودة هنا «يشير إلى الحاجز والرصاص». فلسطينهم كانت هنا «أشار بإصبعه إلى قلبه». أذكر جيداً أن قلبه كان في مكانه، لم يغرّه موسم العصافير.
من أين أنت؟ انتبه صاحب القلب الذي لا يزال في مكانه. فتاة فلسطينية تسأله. حاول أن يقول لها إنه من هنا، أو ربما من خلف الحدود، لكنّ لهجته فضحته، قال: أنا من البحرين. قالت له: كيف تحيون يوم العودة؟ قال لها: نذهب إلى الحدود السعودية.
كلما تدرّبوا على الموت كان يسقطهم في الفخاخ. وهذا القادم من المنامة يتسلّل مع الفلسطينيين من بيروت حتى مارون الراس، ليسقط معهم في الفخ. نعم كان موسماً للعصافير، وكانت تتجمع على سياج الحقل المطل على الرصاص. عدسة الكاميرا بيد صديقي الأميركي. يتوقف الزمن، يتحايل على أصابع الموت، يلتقط صورة فيوقف الجنازة ثواني، لكن الموت يواصل دورة حراسته على الحدود. يلتقط صديقي صورة أخرى، يوقف الزمن ثواني، لكن الرصاص يواصل استقبال النازلين إلى البحر.
نعم موسم العصافير. القادم من المنامة أخذ إجازة من الموت في البحرين. الموت الذي يلاحق العابرين والعاملين والنائمين. الموت الذي يلاحق المواطنين بتهمة «خيانة» وطن يحكمه العسكر، والحركات الدينية التي تقتل باسم الله. القادم من المنامة أخذ إجازة من الموت في البحرين، ليمارس حقه في الموت أمام الحدود الفلسطينية. ومثلما يفعل الموت، وكعادة الموت، حين تقترب منه يهرب منك. خدعه الموت هذه المرة. تركه وصديقه الأميركي يلتقطان صورهما وأحذيتهما من الأرض ويعودان إلى بيروت. حق العودة أن يصل المخيم إلى مارون الراس، ثم يعود حاملاً أطفاله المثقوبين بالرصاص. حق العودة أن تعود إلى المخيم تحت حماية الجيش اللبناني، والأعلام الصفراء ترفرف خلفك.