في مخيم البرج الشمالي في منطقة صور، قد تحتار في الوصول إلى منزل أو قبر الشهيد محمد صالح فندي، الذي سقط خلال مواجهات مارون الراس في ذكرى إحياء يوم النكبة الشهر الفائت. أسباب كثيرة تدفع إلى هذه الحيرة، منها ضخامة المخيم واكتظاظه، الإهمال اللاحق بأزقته، إضافةً إلى أن شهداءه على درب فلسطين كانوا كثراً في السنوات الأخيرة، حيث تختلط الأسماء في الذاكرة المثقلة منذ 63 عاماً، لكنّ أهالي المخيم لا يتركون المجال طويلاً للحيرة. ها هي صورة الشهيد تزّين الجدران، وإن ترافقت مع تعليقات وتعابير عن خيبات متلاحقة في نفوس أهل الشهيد فندي والجرحى الذين أصيبوا في مارون الراس، فهم قد يجدون أن القضية تنحرف مجدداً عن وجهتها الحقيقية بسبب ما يصفونه «بالمزايدات والنفاق السياسي واستغلال دماء الشهداء». عند مدخل منزل آل فندي المتواضع، تستقبلنا صبية بابتسامة عريضة وثياب ملوّنة، فنظنّ أنّ السيدة الواقفة بجانبها، التي تلبس ثياب الحداد، هي أم الشهيد، ليتبين العكس. مريم دحويش، ذات الابتسامة التي لا تفارق وجهها، والأرملة منذ عام ونيّف، هي والدة ثلاثة أطفال أكبرهم «حمودي»، المولود عام 1994 في المخيم والمستشهَد قبل أيام في مارون الراس. هو الفتى الذي صار منذ أكثر من عام «ربّ البيت» بعد وفاة والده. اضطّر الى ترك المدرسة والعمل في ورشة دهان لإعالة أمه وأخته وشقيقه. أما ابتسامة مريم، فأمر لم يعد غريباً: «هكذا تكون أجمل الأمهات».
في الداخل، عُلّقت على الحائط براويز جديدة. صورة السيّد حسن نصر الله تبدو عتيقة وغير طارئة على المكان، لكن الجديد بين الصور هو أن الطفل الذي كان يلعب مع إخوته، صار شهيداً وأيّ شهيد. فقد سقط على درب فلسطين، علماً بأن أحداً من أقاربه لم يسبقه الى الشهادة باستثناء ابن عم والدته، الذي استُشهد خلال التصدي للاجتياح الإسرائيلي عام 1982. ليس لأن العائلة نسيت النضال من أجل فلسطين، بل لأنهم في مخيم البرج الشمالي «يتكدسون في بقعة محرومة ومهملة وممنوعة من الاقتراب من الجهة الصائبة».
في ذلك الصباح، كان الفتى متحمساً لانطلاق الباص إلى الحدود مع فلسطين، رغم أنه لم يكن ليحظى بمعاينة أرض أجداده في مسقط رأسهم في بلدة الناعمة في سهل الحولة المقابل للعديسة وبوابة فاطمة، لكن كان يكفيه هو والعشرات من شباب المخيم أن يشاهدوا أي بقعة فلسطينية. بُعيد التحرير، شاهد فلسطين وهو طفل بين يدي أمه، التي حظيت مع آلاف اللاجئين بتنظيم مسيرة حاشدة عند الحدود. الفرصة لم تتكرر لأن الفتى يصنَّف من ضمن الممنوعين من الاقتراب من المنطقة الحدودية إلا بتصريح «مبرّر» صادر عن الجيش. انتماء «حمودي» الفلسطيني، الذي دفعه إلى إسقاط الاحتلال والعودة إلى سهل الحولة، هو ما قاده كما قاد والدته وعائلته أيضاً الى مارون الراس. لكنه كان أكثر حماسةً من والدته التي بقيت عند حدود المهرجان الخطابي الأساسي، فيما نزل هو إلى محاذاة الشريط. زميله في المواجهات محمود المصري يخبرنا أن مهمته كانت تكسير حجارة الحقل ليرميها الغاضبون على جنود الاحتلال. رمى حجارته فأصابته رصاصة وقتلته.
يتحدث سهيل السعيدي، صديق محمد عما بعد مارون بيوم. هو نفسه أصيب في ساقيه أثناء المواجهات. «إنها نكبة أخرى»، هكذا يصف سلوك القوى الفلسطينية واللبنانية تجاه الشهداء والجرحى الـ22 من أبناء المخيم «الذين لم يلتفت إليهم أحد بعد انفضاض الحشود وإطفاء الكاميرات»، في إشارة إلى المتاجرة الإعلامية التي مارسها البعض بالدماء.
في مخيم البص، لا تزال دماء شهيده الفتى محمود محمد سالم (17 عاماً)، تحدّد بوصلة التحرّك في الأيام المقبلة. في ثانوية دير ياسين التابعة لـ«الأونروا»، ينتهي العام الدراسي من دون محمود، الطالب المجتهد في صف البكالوريا. لا تزال صوره في كل مكان.
البعض للمزايدة السياسية، فيما يتخذها الكثيرون، ولا سيما من أبناء جيله، شمعة تنير درب العودة. محمود ذو السبعة عشر عاماً وغير المنظم في أي فصيل حزبي، بات مثالاً يُحتذى لهؤلاء. ذهب ليرى فلسطين رغم أنه لم يتمكن من رؤية مسقط رأس أجداده في بلدة أم الفرج في قضاء عكا، فعاد شهيداً. اللجان الشعبية وأبناء المخيم كانوا حتى مساء الجمعة، رغم إعلان إلغاء مسيرة النكسة، يكملون استعداداتهم للمسيرة كأنهم لا يريدون تصديق ما يجري. خبر إلغاء المسيرة بدا محبطاً بالنسبة إلى كثيرين منهم، كما إلى كثيرين في مخيمات الجنوب وبيروت الذين كانوا يتحضرون للمشاركة في إحياء هذا اليوم والاقتراب مجدداً من وطنهم الذي سمعوا عنه الكثير، وكبروا وهم يرونه خبراً اول على شاشات التلفزة، من دون أن تطأه أقدامهم . لا يريدون أن يصدقوا ما حصل، ومنهم من لا يزال يأمل في أن تحدث مفاجآت في اللحظات الأخيرة. أن تأتي باصات وتقلّهم إلى الحدود. وربما إلى ما بعد الحدود.
إلى أن يأتي ذلك اليوم، عمل كثير ينتظرهم، هم فتيان المخيمات في ازقتها الضيقة حيث يعيشون. رجالاً كبروا قبل أوانهم.