حرب الخامس من حزيران 1967، أو النكسة كما اصطُلح على تسميتها لتخفيف وطأة الهزيمة، لم تكن مجرّد حرب خسر فيها العرب والفلسطينيون أراضي في القدس المحتلة والضفة الغربية وشبه جزيرة سيناء والجولان السوري المحتل، بل كانت أكثر من ذلك، فمنها ولدت فكرة القبول بالدولة الفلسطينية المقزّمة على حدود عام 1967، بعدما كانت المطالبة في السابق بفلسطين التاريخية من البحر إلى النهر. بعد النكسة ولد القرار 242 الذي نص في نسخته العربية على «انسحاب القوات الإسرائيلية من الأراضي التي احتلت في النزاع الأخير»، فيما حذفت «أل» التعريف من كلمة «الأراضي» في النص الإنكليزي لإضفاء غموض على تفسيراته، إضافة إلى الاعتراف ضمناً بإسرائيل.الخامس من حزيران هو تاريخ ميلاد فكرة «الدولة الفلسطينية»، ولا سيما أن القرار 242 الصادر في تشرين الثاني من عام 1967 تحول إلى المادة الأساسية لتفاوض بين العرب والإسرائيليين، مستنداً إلى الوقائع التي أحدثتها حرب الأيام الستة. مفاوضات سارت في العديد من المسارب السريّة والعلنيّة منذ منتصف السبعينيات، كرّست خلالها فكرة التخلي عما تبقّى من فلسطين التاريخية، لتتحوّل بعدها إلى المساومة على أجزاء من الأراضي المحتلة بعد النكسة، ولا سيما في القدس المحتلة، إلى أن وصلت اليوم إلى طريق مسدود، وظهر خيار التوجّه إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة لنيل الاعتراف بالدولة الفلسطينية، التي كان قد أعلنها الزعيم الراحل ياسر عرفات في عام 1988 خلال اجتماع للمجلس الوطني الفلسطيني في الجزائر.
أيلول يستولي حالياً على الحديث السياسي الفلسطيني، الرسمي والشعبي، إذ لا يفصل الفلسطينيين عن استحقاق إعلان دولتهم إلا أسابيع قليلة، وموعد الاجتماع السنوي للجمعية العامة للأمم المتحدة بات على الأبواب. المواقف آخذة شيئاً فشيئاً بالتبلور لتوقّع مصير الاستحقاق، الذي وُلد فكرة وورقة ضغط، ليتحوّل لاحقاً إلى خيار وحيد. ورقة ضغط حاول الرئيس الفلسطيني محمود عبّاس رفعها في وجه التعنت الإسرائيلي في تجميد الاستيطان، والصمت الأميركي على سلوك سلطات الاحتلال. لم يكن أبو مازن، وربما لا يزال، متمسّكاً بهذا الخيار. فهو إلى اليوم يرفع لواء المقايضة: أعطونا تجميداً للاستيطان وحدود عام 1967، ونحن مستعدون للتراجع عن خطوة طلب الاعتراف بالدولة الفلسطينية في الأمم المتحدة.
هذا لسان حال أبو مازن في السر وفي العلن، ولا سيما أنه مدرك بأن خيار نيل الاعتراف لن يكون أكثر من إجراء رمزي سيجرّ خلفه خطوات لا يحبذها عبّاس، الذي يجاهر برفضه لأي حراك شعبي، سلمي أو مسلّح في الأراضي الفلسطينية، فيما يُعدّ الكثير من الفلسطينيين لبدء التحرك على الأرض لتحويل التصويت الشكلي، في حال حدوثه، إلى واقع فعلي، أو لزيادة الضغط على الاحتلال والمجتمع الدولي إذا سقطت الدولة في امتحان الأمم المتحدة.
إلى الآن، تبدو مقايضة أبو مازن تسير في الطريق المسدود، وبالتالي فاستحقاق إعلان الدولة ماض إلى موعده المتفق عليه خلال انعقاد اجتماع الجمعية العامة للأمم المتحدة. استحقاق بدأت إرهاصاته بقرار لجنة المتابعة العربية، الذي يعد الخطوة الأولى في طريق لن يكون مفروشاً بالورود، ولا سيما مع ظهور آراء قانونية بأن التصويت في الجمعية العامة سيكون بحاجة إلى موافقة مجلس الأمن الدولي أولاً.
فمن الناحية القانونية، يقضي ميثاق الأمم المتحدة بأن العضوية في المنظمة «تسري بموجب قرار الجمعية العامة بناءً على توصية من مجلس الأمن»، ما يعني أن على الدول الراغبة في الانضمام للأمم المتحدة أن تقدم أوّلاً طلباً لمجلس الأمن الدولي. وإذا وافق المجلس، يحال الطلب إلى الجمعية العامة للموافقة عليه. والموافقة في مجلس الأمن تحتاج إلى تصويت 9 أعضاء، إذا لم يستخدم أي من الدول دائمة العضوية في المجلس حق النقض. أما موافقة الجمعية العامة، فهي بحاجة إلى تصويت الثلثين، وهو ما يعني اليوم 128 دولة من اجمالي 192 دولة. غير أن الواقع في أيلول قد يتغيّر، مع الانضمام المتوقّع لجنوب السودان في التاسع من تموز المقبل، ما سيزيد عدد الأعضاء إلى 193 دولة، وهذا يعني زيادة أغلبية الثلثين إلى 129 دولة، يملك منها الفلسطينيون نحو 118 إلى الآن.
موافقة مجلس الأمن تبدو مرتبطة بالفيتو الأميركي، وهو ما يظهر أن إدارة الرئيس باراك أوباما مصرّة عليه في ظل تكرار نغمة «العودة إلى المفاوضات» ورفض الخطوات الأحادية. فالرئيس باراك أوباما حذّر في التاسع عشر من أيار الماضي، في خطاب له، الفلسطينيين من اللجوء إلى الأمم المتحدة، واصفاً هذه الخطوة بـ«الخطأ». خطأ قد يكون أوباما نفسه هو من أوقع الفلسطينيين فيه، حين خطب العام الماضي أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، متمنيّاً لو تشهد الدورة التالية انضمام «دولة فلسطين» إلى المنظمة الدولية.
قد يكون التعويل الفلسطيني على الموقف الأوروبي، وما إذا كان سيتحول إلى ضغط على نظيره الأميركي من الآن وحتى أيلول المقبل. موقف أوروبي لا يبدو أنه تبلور بوضوح بعد، وإذا كانت جميع الدول تلوّح بإمكان الاعتراف بالدولة الفلسطينية «في الوقت المناسب»، فلا موقف صريحاً لدعم قيام الدولة عبر ضمها إلى الأمم المتحدة، ولو بصفة مراقب. الأوروبيون أيضاً يستخدمون ورقة الاعتراف بالدولة الفلسطينية للضغط على الموقفين الإسرائيلي أولاً والأميركي ثانياً، لتعديل المواقف تمهيداً لاستئناف المفاوضات، وهو الخيار الذي تفضّله الدول الكبرى في أوروبا، وفي مقدمها فرنسا، التي تحدّث وزير خارجيتها ألان جوبيه عن «مؤتمر سلام» في تموز، في رفض ضمني لخيار الأمم المتحدة. فالاتحاد الأوروبي لا يبدو مستعداً للذهاب بعيداً في مواقف على هذا المستوى الاستراتيجي من دون الحصول على الموافقة الأميركية.
يبدو أن الفلسطينيين مدركون لحقيقة عدم القدرة على تجاوز الفيتو الأميركي، غير أنهم يراهنون، بحسب مصادر، على امتناع واشنطن عن التصويت، وهو رهان سقط وسبقت تجربته خلال التصويت على مشروع قرار تجريم الاستيطان قبل أشهر قليلة، وبالتالي فالطريق إلى الدولة الفلسطينية لا يزال شائكاً، وملامح استحقاق أيلول ترسم، إلى الآن صورة الفشل، ليصار إلى تأجيل مجرّد إعلان الدولة الفلسطينية، أما ولادتها فشيء آخر.