حتى ساعات متقدّمة من ليل أول من أمس، كان كثيرون لا يزالون يمنّون النفس بأنهم سيستطيعون اختراق تعزيزات الجيش اللبناني والوصول إلى الحدود اللبنانية الفلسطينية. اتصالات من هنا وهناك لاستقدام باصات تقلّ الراغبين في المشاركة. لكن المشهد صباحاً، ولا سيما في الجنوب، جاء ليثبت العكس: «يستحيل على أيّ كان العبور».
الطريق الساحلي من بيروت إلى الجنوب كان معزّزاً بآليات الجيش. وبدءاً من ليل السبت ـــــ الأحد تحوّلت نقطة التفتيش عند مفترق أبو الأسود إلى ثكنة عسكرية ينتشر على جوانبها عشرات الجنود الذين استحدثوا نقطة تفتيش جديدة لا تراقب السيارات فحسب، بل تطلب هويات سائقيها بهدف منع دخول أي فلسطيني إلى المنطقة لكي لا تتكرّر واقعة مارون الرأس.
عند حاجز القاسمية تتكاثر الجحافل، وتتأهب الآليات العسكرية في مشهد يقرب إلى مواجهة عدوان ما. التأهب يصل إلى ذروته على بعد أمتار عند مفترق بلدة برج رحال الذي استخدمه البعض في يوم النكبة كطريق يؤدي إلى القطاع الأوسط. هنا اعترضت ملالة ضخمة الطريق الرئيسي، تظلّلها لافتة لا تزال منذ بداية شهر النكبة تقول: إلى فلسطين 48 كيلومتراً. يضيق الخناق على السيارات التي تمرّ ببطء في اتجاه واحد بعد خضوعها للتفتيش وإبراز هويات سائقيها. بعد قليل، نصل إلى التجمّعات الفلسطينية: القاسمية، شبريحا، جلّ البحر، مخيم البص. المخيم المكتظ كان لا يزال نائماً عند الساعة الثامنة صباحاً، رغم أنها الساعة التي كانت قد حدّدت سابقاً موعداً للانطلاق نحو الحدود قبل قرار الإلغاء. يبدو أن سكانه قد التزموا بالمنع وامتثلوا للتمنيات السياسية اللبنانية والفلسطينية.
الفرق سجّله مخيم البرج الشمالي الأكثر ضخامة وتنوّعاً سياسياً وحزبياً ضمن الفصائل الفلسطينية. المخيم الذي ترتفع عند مدخله صورة ضخمة لشهداء مارون الراس من أبناء المخيمات، ومنهم ابن المخيم محمد صالح فندي، قرّر ألا يقبل بمنعه من الاقتراب من فلسطين في يوم النكسة. بعد تبلغهم بقرار إلغاء المسيرة مساء الجمعة الفائت، اجتمع عدد من الشباب المستقلين لتنظيم تحرّك مستقل يحاول الوصول إلى الحدود أو إلى أقرب نقطة منها. في أحد الأزقة، يحشد محمد إبراهيم رفاقه ويوزّع عليهم رايات فلسطين ويقودهم في مسيرة راجلة تجوب المخيم لتصل إلى نقطة الجيش اللبناني، علّ جنوده يسمحون لهم بإكمال المسيرة نحو الحدود. لم تزد المجموعة على الثلاثين شخصاً، من بينهم مريم دحويش والدة الشهيد فندي. سريعاً ما أدركوا استحالة المرور بالحسنى، فقرروا إعلان العصيان المدني داخل المخيم وقطع مداخله. وما هي إلا دقائق حتى اشتعل مدخل المخيم المحاذي لحاجز الجيش بالإطارات التي أحدثت دخاناً كثيفاً غطى سماء المنطقة. وبينما الإطارات تشتعل والأعداد تتزايد تدريجاً، بدأت أفواج العمال تعود باكراً من العمل. ما القصة؟ تقول السيدة المسنّة إن حاجزاً للجيش اللبناني «أمرنا بالعودة إلى بيوتنا ومنعنا من الاقتراب من البستان الذي نعمل فيه في بلدة دير قانون رأس العين». فالحواجز والإجراءات العسكرية كانت تتزايد وتتشدد كلما اقتربنا أكثر من الحدود. معظم الأجراء والعمال في ورش البناء والبساتين عادوا الى بيوتهم لأنهم فلسطينيون و«لأن العسكر لم يصدّقوا أننا ذاهبون إلى أشغالنا، لا إلى الحدود. فنحن لا يمكننا تعطيل يوم واحد لأننا مياومون وأجراء». بعد إصرار المحتجّين على إقفال الطريق بالإطارات ونصب خيمة في منتصفه، تنادى مسؤولو حركتي حماس وفتح لمفاوضتهم، واقترحوا عليهم استبدال عصيانهم بنصب خيمة رمزية على قارعة الطريق. رفض الاقتراح، إلى أن قرّر المحتجون فضّ اعتصامهم بعد الظهر وتحويله إلى خيمة دائمة في ساحة المخيم.
إقفال الطريق بالإطارات، وحرقها، أمر لجأ إليه أبناء مخيم برج البراجنة بعد متابعتهم ما جرى عند الحدود مع الجولان السوري المحتل. قبل ذلك كانوا قد استسلموا لقرار إلغاء المسيرة وقبعوا في منازلهم. طرقات المخيم كانت خالية، الصمت لفّ بعض الأزقة، بينما صدحت أصوات مكبرات الصوت في أزقة أخرى بالأغاني الثورية. الأعلام السوداء التي قيل إنها سترفع في المخيم تعبيراً عن «نكسة» اللاجئين لعدم السماح لهم بالتوجه الى الحدود اللبنانية الفلسطينية لم ترفع سوى فوق مراكز الفصائل. قرب جامع الفرقان، حيث دعت «لجنة المتابعة والتنسيق لمسيرة حق العودة ــ 2» إلى التجمّع، لم يتجاوز عدد المعتصمين العشرات. ارتدى أغلبهم الأسود، نصبوا خيمة كتبوا عليها شعار «الشعب يريد الوصول إلى الحدود». أما على الباب الخارجي للمخيم فكانت ناقلتا جند للجيش اللبناني تقفان منعاً لخروج هؤلاء الى طريق المطار. أمام جامع الفرقان، ألقى أبو عماد رامز ممثل التحالف كلمة عبر فيها عن امتعاضه من منع مسيرة العودة. أما في مخيم شاتيلا، فقد طافت مسيرة في أزقة المخيم، ثم عاد الجميع إلى منازلهم لمتابعة ما يجري في الجولان. أما في أصغر مخيمات لبنان، أي مخيم مار إلياس، فقد أحيا الفلسطينيون نكستهم بطريقة أخرى، إذ أقاموا معرض صور للفنان جورج زعني الذي عرض صوراً لمدينة يافا.
في مخيم عين الحلوة، الذي شهد محيطه إجراءات أمنية وتدابير احترازية للجيش اللبناني، كان المشهد أكثر هدوءاً وإن عبّر سكان المخيّم عن غضبهم لعدم إحيائهم المناسبة كما كانوا يشتهون. هنا يواجهك الأهالي باتهامات متعددة للبنانيين اتهموهم بالوقوف وراء إلغاء المسيرة. حتى التبريرات التي قالت إن إلغاءها كان لحماية الفلسطينيين من مجزرة قد ترتكبها بحقهم إسرائيل عند الشريط، لم تلق آذاناً صاغية لديهم.
«المخيم استعاد نبضه الثوري بعد مواجهة مارون الراس» تقول الناشطة الشبابية مريم الخطيب التي كانت تدرّب مجموعة من الأطفال على أداء أغنية «وين ع رام الله»، ووصفت إلغاء المسيرة بأنه «ثورة مضادة» على ثقافة «الاستشهاد» التي عادت إلى الشارع الفلسطيني: «لقد أعدنا كفلسطينيين ترتيب أولوياتنا، فلسطين أولاً، العودة أولاً، والقتال باللحم الحي هو عنوان المرحلة، اليوم منعنا لكن سنرجع قريباً الى بلادنا».
مسؤول الجبهة الديموقراطية في عين الحلوة، فؤاد عثمان، قال بدوره «إن المخيم حزين وكئيب لقرار غير صائب حرم الآلاف من أبنائه من الزحف إلى الشريط الشائك، والتأكيد على حق مقدس هو العودة». «أبو الرائد» مقاتل فتحاوي قال إنه ورفاقه استعدّوا جيداً لعبور الأسلاك الشائكة، وهم أجروا تمرينات على ذلك، ورغبته هي الاستشهاد على الجانب الفلسطيني من الحدود لو قيّض له الذهاب الى هناك، مقاتل قال «الدولة اللبنانية تريدنا أن نموت في حرب الزواريب داخل المخيم، لا أن نستشهد في مواجهة العدو، شو بدهم التوطين يعني؟».
في مخيّمَي البدّاوي والبارد، سؤال واحد يتكرّر: «لماذا منعونا من التوجّه إلى الحدود؟ الإضراب الذي شلّ المخيمين بالكامل أمس، وسط انتشار الأعلام الفلسطينية والرايات السوداء في أرجائهما، زاد من نسبة الإحباط لدى قطاع واسع من أهالي المخيمين الذين رقدوا في فراشهم باكراً، ليل أول من أمس، عكس المرة السابقة، وخصوصاً الشباب، الذين كانوا يمنّون النفس بالاقتراب مرة أخرى من «تراب فلسطين»، وكانوا ينتظرون هذا اليوم على أحرّ من الجمر، وسط تحضيرات عكفوا عليها بحماسة قبل إلغاء التحرك، من خلال تحضيرهم «عدة الشغل» اللازمة لهم قبل نزولهم، من أعلام ورايات وشعارات، وحتى عبوات المياه ووجبات الغداء.
وفي مخيم الجليل (رامح حميّة)، اجتاح الهدوء أزقّة المخيم، وأقفلت المحالّ على اختلافها. أبناء «ويفل» اكتفوا بالتجمع عند ساحة المخيم أمام مدخل مكتب الأونروا، فيما وجوه اللاجئين اعتلاها وجوم كبير.
شارك في التغطية: قاسم قاسم، خالد الغربي، عبد الكافي الصمد ورامح حميّة.



16 اخترقوا الحواجز

كان كلّ شيء يسير على ما يرام عند الحدود اللبنانية الفلسطينية، قبل أن يبدأ نحو 16 شاباً وشابة بالهرولة على بعد أمتار فقط من العدو، حيث وقعت حادثة الشجرة في العديسة، قبل أقلّ من عام. اثنان منهم يمسكان طرفي علم فلسطين، فيما كلّ الأيدي ترفع علامة النصر والحناجر تصدح بصيحات ثائرة. أين الجيش وتعزيزاته؟ إنه يواكب الشباب بجسده وسلاحه، فيما يقف عدد من الجنود الإسرائيليين على تلة مشرفة في حالة استنفار. يكمل الشباب طريقهم، ليس إلى وجهة محددة، إلى «أطول وقت ممكن أن نسير فيه بمحاذاة الحدود» تقول يارا الحركة التي قادت المجموعة التي تنادت عبر «الفايسبوك» إلى التوجه من بيروت نحو الجنوب واجتياز كل العراقيل. كيف تمكّنتم من تخطّي حواجز التفتيش التي تمنع مرور الفلسطينيين؟ كانوا اثني عشر لبنانياً وأربعة فلسطينيين التقوا عند محلة الكولا في بيروت، استقلوا باصاً للركاب أوصلهم إلى صيدا ومنها إلى النبطية. هناك استأجروا باصاً آخر ليقلّهم إلى العديسة، حيث أقرب نقطة مواجهة على طول الحدود الجنوبية مع فلسطين المحتلة. نزلوا وشهروا سلاحهم: راية فلسطين والكوفية وشارات النصر. استنفر العسكر على الجانبين. حثّ الشباب الخطى فلحق بهم الجنود اللبنانيون، وواكبوهم بطريقة سلمية، طالبين منهم التوقف والعودة من حيث أتوا. وما هي إلا دقائق حتى امتلأت الساحة بعشرات العناصر من الأجهزة اللبنانية الأمنية والعسكرية. يطلب منهم الجنود التجمّع في مكان واحد، يفعلون فيبدون كأنهم محتجزون، فيما تحاصرهم البدلات العسكرية والمدنية من كل جانب بانتظار القرار: ماذا سيفعلون بهم؟ بعد اتصالات ومشاورات، وسحب هوياتهم واستجواب بعضهم على انفراد، أُبلغ المحتجزون بأنه سيُطلق سراحهم، وسيؤمن لهم النقل إلى بيروت مجاناً. استقلّ العائدون إلى فلسطين الباص ليسلكوا طريق العودة من جوارها إلى بيروت.
أ. خ.