كان الإخوان المسلمون أول من بادر من بين أطراف المعارضة السورية إلى مواكبة الحركة الاحتجاجية في داخل سوريا. وفي الأسبوع الأول من اشتداد زخم المواجهات في درعا، أطلت شخصيتان بارزتان من الإخوان، هما المراقب العام المهندس محمد رياض الشقفة، والناطق الرسمي زهير سالم. ظهر الأول من إسطنبول التي وصل إليها من مقر إقامته في اليمن ليقول في أحاديث ولقاءات إعلامية إن جماعة الإخوان «تدير التظاهرات وتشارك فيها بفاعلية»، وهو ما تقاطع مع اتهامات النظام السوري عن أن «التظاهرات وأعمال الشغب والتخريب هي من صنيع جماعة الإخوان المسلمين».
واستدعى ذلك رداً من وكالة أنباء الأناضول التركية الرسمية، في صيغة بيان تحذيري أصدره المتحدث باسم وزارة الخارجية، جاء «رداً على تصريحات المسؤول في جماعة الإخوان المسلمين السورية محمد رياض الشقفة من إسطنبول حيث هو الآن». ونقلت الوكالة عن البيان قوله «إنه في هذه المرحلة الدقيقة، يستحيل أن تسمح تركيا بأية مبادرة (من الإخوان المسلمين السوريين) يمكن أن تضر بالرغبة بإجراء إصلاحات في سوريا». وأضاف: «نحن واثقون بأن الشعب السوري سيلبي مطالبه وتطلعاته من خلال السبل السلمية، وأن الإدارة السورية ستبدأ عملية الإصلاح التي وعدت بها في أقرب وقت ممكن». وبحسب مراقبين أتراك، إن حرص وزارة الخارجية التركية على التشديد في بيانها على «السبل السلمية»، إنما يعكس تلقيها معلومات من سوريا تشير إلى وقوف جماعة الإخوان المسلمين وراء أعمال العنف التي شهدتها التظاهرات في أكثر من مكان. وبينما كانت مواقف سالم الإعلامية في بداية الحركة الاحتجاجية مواربة، فإنه تدارك الأمر في تصريحات لاحقة أراد منها تصويب الرؤية، وأعلن في الأول من أيار «أن الجماعة قررت استئناف نشاطاتها المعارضة، واتخذت قراراً بهذا الشأن عبر مؤسساتها»، نافياً أن يكون الإخوان قد دعوا في بيانهم الأخير الشعب السوري إلى التظاهر. وقال: «بياننا الأخير لم يتضمن أي دعوة مباشرة إلى التظاهر، وكان هذا العنوان قراءة غير دقيقة من بعض وسائل الإعلام، والذي وجهه البيان هو دعوة لكل أبناء الشعب السوري بكافة فئاته للالتحام بالحراك الوطني». وأضاف: «الجماعة أكدت في بياناتها السابقة أنها ملتحمة بهذا الحراك ومصرة على أن يبقى وطنياً ودون أي احتواء من أي جهة كانت، ولا يحق لأحد أن يدعيه وأن يفرض الوصاية عليه». وأكد أن الإخوان المسلمين «جزء من المجتمع وليسوا وراء هذا الحراك وليسوا المحركين له، ولا الأوصياء عليه».
والسؤال الذي يطرح نفسه هو، لماذا تنصل سالم من تصريحات المراقب العام، وأنكر على جماعته أي دعوة للتظاهر؟ الإجابة تتلخص في ثلاثة أسباب: الأول هو أن الإخوان، بعد شهرين من الحركة الاحتجاجية، اعترفوا بحجمهم الفعلي ودورهم المتواضع فيها. ويعرف السوريون أن رهان الإخوان الرئيسي كان على مدينتي حلب وحماة، حيث مراكز ثقلهم التاريخية، وبينما لم تتحرك الأولى حتى الآن، فإن الثانية انتظرت حتى «جمعة أطفال الحرية» الأخيرة لكي تنزل بقوة. ورغم التلميحات التي صدرت بشأن دور للإخوان في استنفار حماة، فإن أوساطاً سورية تؤكد أن الحراك تلقائي، وغير مسيّر. واعترف سالم بإمكان مشاركة الجماعة في الحراك الذي تشهده سوريا، بالقول: «لكوننا لا نملك قواعد تنظيمية بالمعنى الاصطلاحي، لكون التنظيم محكوماً عليه بالإعدام، فإن لنا قواعد فكرية تؤمن بمبادئنا وأهدافنا ضمن المجتمع السوري، وهي تتحرك تلقائياً ضمن هذا المجتمع، وتشارك في الحراك الدائر حالياً على طريقتها وبقرارها». السبب الثاني أن الإخوان تعرضوا لانتقادات داخلية وخارجية. في الداخل عابت عليهم أطراف في الحراك الجماهيري أن ينسبوا إلى أنفسهم تسيير التظاهرات، ورأت أنهم شذوا عن الخط العام للمعارضة الذي تواضع أمام حركة الشارع وسار خلفها من دون ضجيج أو بيانات. وخارجياً، نبهتهم أطراف مثل تركيا إلى مخاطر سلوكهم السياسي، الذي يثير الحرج، ويخلق أزمة دبلوماسية مع سوريا. أما السبب الثالث، فهو أن ادعاءهم أبوّة الحركة الاحتجاجية يعطي للنظام ذرائع لضربها بقسوة، ولا سيما أنه درج على توجيه اتهامات للمتظاهرين بأنهم «سلفيون» يمارسون التخريب، ويعتدون على قوى الأمن والجيش. يمكن تلخيص تاريخ حركة الإخوان المسلمين السوريين ومسارها في أنه يتأرجح بين التقية السياسية والأخطاء القاتلة. وبرزت براغماتية الإخوان المسلمين وبراعتهم في التلون حسب الطقس السياسي العام بعد الاستقلال مباشرة، حيث شاركوا في الانتخابات البرلمانية في سنة 1947، حين باشرت الجماعة العمل السياسي العلني، ولم تتراجع عن هذا الخيار في ظل ديكتاتورية حسني الزعيم وسامي الحناوي، واستمروا في حكومة خالد العظم سنة 1949بوزير أسندت إليه حقيبة الأشغال، هو محمد المبارك، وكانت مكافأة ظهورهم العلني أن أديب الشيشكلي قرر سنة 1952 إغلاق مقارّ الإخوان وزج بقادتهم في السجن. وحصل انفراج في وضعهم العام بعد سقوط الشيشكلي ومجيء هاشم الأتاسي سنة 1954. لكن المرحلة الأبرز كانت مع وصول حزب البعث إلى السلطة في سنة 1963، الذي حل جميع الأحزاب ونصّب نفسه قائداً للدولة والمجتمع. وليس هناك محطات سياسية هامة في حياة حركة الإخوان المسلمين حتى بداية السبعينيات، عندما عاد الإخوان للنشاط شبه العلني من خلال العمل الدعوي في صورة أساسية، واستفادوا من وصول حافظ الأسد إلى السلطة سنة 1970، ذلك أن الأسد كان منهمكاً لعدة سنوات في ترتيب وضعه داخل الحزب والجيش، وشُغل بعد ذلك بحرب تشرين سنة 1973. ورغم أنه بدا قوياً وممسكاً بكل الخيوط، لم يستقر وضعه الداخلي حتى سنة 1976 حين تدخل عسكرياً في لبنان. ويمثّل هذا الحدث منعطفاً هاماً في تاريخ سوريا لعدة أسباب. الأول أن الأسد استمد شرعية عربية ودولية للتدخل العسكري في لبنان، ما زاد في أوراق قوته. والثاني أن الشارع السوري أخذ يتحرك في اتجاهين: رفض التدخل في لبنان ضد المقاومة الفلسطينية، والمطالبة بالديموقراطية. وهنا بدأت تظهر حركة احتجاجية عبّرت عن نفسها من خلال تحرك النقابات، وخصوصاً نقابة المحامين، وتعاظم هذا التحرك بسرعة حتى بدا حكم الأسد غير قادر على احتواء حركة الشارع، والتفرغ للوضع في لبنان، الذي استعر فيه القتال بشدة. في هذه الفترة تحديداً، بدأ الإخوان بارتكاب الخطأ القاتل الرقم واحد، وهو رفع السلاح في وجه النظام، وكانت الفاتحة من خلال سلسلة من أعمال الاغتيال التي طالت رموزاً من الطائفة العلوية من دون تفريق، ولم يقتصر الأمر على شخصيات أمنية وعسكرية، بل وصل إلى أساتذة جامعات ومثقفين لم يكونوا في صف النظام. وبرر الإخوان ذلك بأنه رد على ممارسات النظام الطائفية وتصفيته لبعض شخصياتهم. وكانت الذروة مع حادثة مدرسة المدفعية في حلب سنة 1979، حيث ارتكب المدعو إبراهيم يوسف مجزرة مروعة بحق مجموعة من العساكر العلويين، سقط منهم 32 قتيلاً. ورغم نفي الإخوان المسؤولية عن المذبحة، كان الحادث إيذاناً بانفلات العنف من عقاله في الاتجاهين، وجرّد الطرفان أسلحتهما ودخلا في حرب مفتوحة استمرت حتى سنة 1982، وكانت خاتمتها مجزرة حماة، التي تتضارب الأرقام في عدد ضحاياها بين عشرة آلاف وثلاثين ألفاً، ولم تسلم منطقة سورية من لظى تلك المواجهات، لكن كان لحماة وحلب النصيب الأكبر من الضحايا والدمار.
من أبرز نتائج تلك المواجهات التي دامت قرابة خمس سنوات، توجيه ضربة قاصمة لحركة الإخوان المسلمين، حيث صُفِّي جناحها العسكري «الطليعة المقاتلة»، وفر بعض رموزه إلى خارج سوريا، ومنهم عدنان سعد الدين ومحمد رياض الشقفة. وعلى الصعيد السياسي، جرى تجريم الحركة وحظرها بموجب القانون 49، الذي نصت مادته الأولى على أنه «يعتبر مجرماً ويعاقب بالإعدام كل منتسب لجماعة الإخوان المسلمين». ومنذ ذلك الحين، لم تقم للإخوان قائمة في سوريا، حتى جاءت الحركة الاحتجاجية لتسلط الضوء عليهم من جديد.
الخطأ القاتل الثاني هو أن الإخوان خرجوا خاسرين في المواجهة العسكرية، وذهبوا إلى العراق ليتحالفوا مع صدام حسين لإسقاط النظام في سوريا. ولا يخفى على أحد أن الرئيس العراقي الذي كان في أوج حربه مع إيران، أراد تجيير هؤلاء على أساس مذهبي ضد عدوه اللدود حافظ الأسد. وقَبِل قادة الإخوان، ومنهم عدنان سعد الدين، هذه الوظيفة، وحاولوا أن يبرروها من منطلق تحالفات الضرورة، لكن هذا الحلف انتهى لغير مصلحة الإخوان، الذين لم يستفيدوا من إمكانات النظام العراقي لمواجهة الأسد، وخسروا رصيدهم الأخلاقي. واقتصر نشاطهم على بعض العمليات العسكرية، التي كان مفعولها عكسياً.
الخطأ الثالث هو التحالف مع عبد الحليم خدام في سنة 2006. وكان ذلك بمثابة الضربة القاضية لهم. فخدام الذي عدّته المعارضة السورية جزءاً من النظام، واشترطت عليه الاعتذار عن ماضيه، قبل أن تقبله في صفوفها، احتضنه الإخوان وفق حسابات خاطئة كانت تقوم على أن الإدارة الأميركية السابقة تعمل على تغيير نظام الحكم في سوريا، ومرشحها لقيادة المرحلة المقبلة هو خدام. ووصلت للإخوان إشارات من أطراف عربية ودولية، بينها السعودية، بضرورة التحالف مع خدام، وهذا ما كشفه سعد الحريري في إحدى برقيات «ويكيليكس». وتبين مع مرور الوقت ورحيل إدارة جورج بوش أن المسألة لم تكن أكثر من سراب غرق فيه الإخوان، فانسحبوا سنة 2009 من جبهة خدام (جبهة الخلاص)، ولكنهم فتحوا خطاً تفاوضياً مع النظام السوري عبر لجنة أمنية، وعلقوا على أساسه نشاطهم، وبرروه بالحرب الإسرائيلية على غزة. وقد جرى الحديث في أوساط المعارضة عن أن هناك وساطة بين الإخوان والنظام، تولتها تركيا وحركة حماس، ولكنها لم تؤد إلى ما كان يعوّل عليه الإخوان في إلغاء القانون الرقم 49، والسماح لهم بالعودة من الخارج. مرة واحدة اقترب الإخوان من صوت العقل، حين شدهم رياض الترك ليكونوا جزءاً من مكونات المعارضة الوطنية، ووضع أمامهم جملة من الشروط لكي يتجاوزوا ماضيهم، وأول نقطة كانت إدانة الإرهاب، ومن ثم الإقرار بفصل الدين عن الدولة، وقبول التعددية السياسية، وعلى هذا الأساس دخلوا «إعلان دمشق»، الذي غادروه بعد فترة قصيرة ليلتحقوا بجبهة خدام.
اليوم يرشح الإخوان أنفسهم لدور قيادي من خلال سلسلة المؤتمرات التي انعقدت في تركيا وبروكسل، ورغم أنهم لا يزالون يمارسون لعبة التقية السياسية، فإن لمساتهم واضحة على مؤتمرات الخارج، بل إن شهوة الوصول لدى بعضهم تبدو طاغية، فهم مستعجلون لقطف ثمار الحركة الاحتجاجية، وعينهم على تونس ومصر واليمن، حيث تحتل حركة الإخوان حيزاً واسعاً من الفضاء الجديد، ومن الواضح أن إخوان سوريا استفادوا من التجربة في البلدان الثلاثة، وأدركوا أهمية تركيا وقدرتها على تسويق هذا النموذج لدى الولايات المتحدة، لكن ما ينقصهم هو الحضور الداخلي، الذي صار حلماً بعيد المنال، بعدما تشتتت صفوفهم وصار تاريخهم سلسلة من الأخطاء القاتلة.



الاحتجاجات تتحول إلى عصيان مسلح

أفاد الصحافي البريطاني روبرت فيسك (الصورة) بأن الاحتجاجات ضد نظام الرئيس السوري بشار الأسد تتحول إلى عصيان مسلح، مع لجوء المتظاهرين السلميين إلى حمل السلاح لمحاربة من سماهم «الميليشيات المعروفة باسم الشبيحة»، التي قال إنها تعذّب المناهضين للنظام وتقتلهم.
وقال فيسك، في مقال بصحيفة «إندبندنت» الصادرة أمس: «هناك أدلة متزايدة على أن جنوداً سوريين بدأوا ينشقون عن قوات الأسد، في أخطر تحدٍّ يواجهه نظامه حتى الآن، بعد الانتفاضة المسلحة التي واجهها والده حافظ عام 1980 في مدينة حماة». وأضاف: «إن التمرد المسلح اليوم ينتشر في جميع أنحاء سوريا، ما يجعله أقوى وأكثر صعوبة للقمع، ولا عجب أن التلفزيون السوري صار يعرض جنازات ما يصل إلى 120 عنصراً من قوات الأمن قُتلوا في موقع واحد فقط هو مدينة جسر الشغور الواقعة شمال سوريا، وجاء أول دليل على تحول المدنيين إلى حمل السلاح للدفاع عن أسرهم من درعا، حيث بدأت الانتفاضة الدامية في سوريا في أعقاب اعتقال أجهزة الأمن طلاب مدارس وتعذيبهم».
(يو بي آي)