دمشق | بائعة العلكة الباحثة عبثاً عن عابر للحدود عند مدخل الأمن العام اللبناني في المصنع تبدو تعبة. موظف الأمن العام السوريّ الجالس بين صورة السيّد الأمين العام على الزجاج أمامه وصورة سيادة الرئيس على الجدار الرمادي خلفه يبدو تعباً. الشاب الإيرانيّ الذي يوقّع تعهداً بعدم القيام بأي نشاط صحافي خلال وجوده في سوريا يبدو تعباً. صورة الرئيس الملوّح للآتين من لبنان معلناً أن «سوريا الله حاميها» تظهره هذه المرة تعباً. العسكريّ الذي يقطع الطريق مهرولاً إلى معسكر التدريب يبدو تعباً. سائق التاكسي المتأفف من شوارع لا ركاب فيها يبدو تعباً. مديرة الفندق الخالي وموظفوها القلقون من الصرف الجماعيّ إذا استمر الركود أسبوعاً آخر يبدون تعبين. سيخ الشاورما الذي لا يجد من ينقذه من النار التي يدور حولها منذ ثلاثة أيام يبدو تعباً. العميد المنهزم مع عنفه في الشوارع يبدو تعباً. عنصر الاستخبارات الذي يقود عصراً سيارة أجرة بحثاً عن مندسّ و«يلطي» مساء مع زملائه قرب «باب شرقي» لا تزيده الـ«ريد بول» إلا تعباً. كؤوس العرق المكدسة على طاولة المثقف المهموم والعاجز عن التأثير على السلطة والشارع تزيده تعباً. دمشق، تلك الحاضنة لأهالي درعا وبانياس وحمص وجسر الشغور وحماه وحلب والقامشلي وكل مدينة وحي سوريين، تبدو تعبة.
ربح أو خسارة كل شيء

جديد السلطة اعترافها بعدم ثقتها بالحوار أو الإصلاح كفعل يتجاوز مبدأ إنشاء اللجان وبعض التقديمات الصغيرة هنا وهناك، واقتناعها بأن الآتي لن يكون أصعب مما مرّ. وبالتالي تتمسك السلطة بربح كل شيء تقريباً بدل خسارة كل شيء، على دفعات. أما المثقفون والحزبيون التقليديون فمقتنعون بأن الوعي الشعبيّ أكبر من أن تبلعه السجون أو أن تقسمه العصبيات. ويكفي الحزبيين الشيوعيين والناصريين والقوميين ترداد أحد المحتجين «سلميّة سلميّة» أو «إسلام ومسيحية» لينأوا بالتحرك في عقولهم عن العصبيات الطائفية، علماً بأن التنقل بين بعض هؤلاء المثقفين يثبت أن عنف السلطة في قمع المحتجين لم يبق في الشارع إلا من أوصلتهم السلطة نفسها إلى الاعتقاد بأن الموت أفضل من الحياة التي يعيشونها، وانسحب بالتالي بائعو التماثيل واللوحات والمواقف والأشعار الذين يحلمون بكرسي لا بتابوت. فيما توحي أحاديث المواطنين السوريين بأن السلطة والمثقفين في مكان والمحتجين في مكان آخر. المحتجون كالسلطة، يعتقدون أنهم في معركة يربحون في نهايتها كل شيء أو يخسرون كل شيء تقريباً، مع العلم بأن المجتمع السوري، باستثناء بعض قليل من مثقفيه، يرى أن المحتجين وقعوا في أكثر من منطقة في فخ السلطة بلجوئهم إلى السلاح كتدبير احترازي مرة وللدفاع المشروع عن النفس مرات. وسيصادف زائر دمشق شتائم كثيرة للمسلحين الذين «خربوا البلد» بشكل يوحي بأن الكثيرين يتأثرون برواية السلطة عن المسلحين، التي تثير ضحك آخرين.

وقف مسلسل الدم

في أسواق المدينة وباصاتها ومطاعمها وبين باعة الخضر والفاكهة والذرة على أرصفة شوارعها يتبلور انطباع شعبي بأن سوريا لن تستعيد استقرارها حتى ما بعد إسقاط النظام، من جهة. ومن جهة أخرى، لن يقدم النظام في هذه المرحلة الإصلاحات الأساسية والجدية التي يريدها كل الشعب السوري (وأنصار النظام قبل خصومه) ولن يحيد عن نهج العنف (وهناك في النظام من يعتقد أن مشاهد تنكيل عناصر الأمن بالمحتجين التي تعرضها الفضائيات العربية تفيد النظام أكثر بكثير مما تضره).
وبالتالي، يبني المواطنون حساباتهم ويفكرون بمستقبلهم وفق هذين المعطيين: سلطة لن تتخلى عن مكاسبها الأساسية، ومحتجّون لن يتراجعوا، تطلق السلطة موقوفيهم فتراهم خلال أقل من أربع وعشرين ساعة يتظاهرون (المعتقلون السابقون) ضدها.
وبالتالي، تزداد الأكثرية الشعبية اقتناعاً بصوابية موقفها المتفرج حتى الآن على طرفين لا يريدان ـــــ في هذه المرحلة ـــــ أن يردعهما رادع عن بعضهما. ولا شك هنا أن صور التنكيل المذهبي بعناصر الجيش الواردة من منطقة جسر الشغور، والسقطات الإعلامية الكبيرة لخصوم النظام، وتعثر مؤتمرات المعارضين الدولية، فضلاً عن مراوحة الضغط الدولي في المكان الذي كان يقف فيه قبل نحو أسبوعين على الأقل، أثرت على الرأي العام الذي بات مقتنعاً أكثر بأن الفضائيات العربية والأجنبية، تماماً كما التلفزيون السوري، لا تقول الحقيقة. وهذا ما يجعل وجهة النظر التي لا تبالي بمن يقتل تطغى على وجهات النظر الأخرى. والمهم بالنسبة الى هؤلاء إيقاف مسلسل القتل ومعالجة فيروس الجنون الذي ضرب عقولاً كثيرة.
ضمن الأكثرية الخائفة على سوريا تضيق رقعة الذين يوافقون على كل شيء في سلوك النظام، أو الذين يمكن أن يتوهموا أنه قادر على إخافة الشعب بكامله وضبط النقابات والصحافيين والتمتع بأكثرية شعبية حتى على شبكة الإنترنت. تعرف هذه الأكثرية جيداً النظام الذي يحكمها، تعلم أن النظام متماسك حتى اليوم، لكنه لا يتمتع بكل هذه القدرات. والمشكلة الأساسية في ما تواجهه السلطة السورية هو الغباء الإعلاميّ من جهة، وتحول رجال الاستخبارات الأساسيين إلى رجال أعمال من جهة أخرى.
تبدو الشمس في غروبها عن دمشق تعبة. لا يبالي الشعب بالتفاصيل السياسية والتحليل والاستنتاجات. يستمع لبعضه البعض مكتشفاً الأحقاد المخبأة، الكره المتبادل والخوف على المكتسبات من عامل النظافة في المحافظة، مروراً بأبناء طوائف الأقليات، وصولاً إلى الطبقة الوسطى وما فوق. تنتظر الأكثرية الشعبية مبادرة ممّن يشاركها الخشية على سوريا تنقذ ما بقي من البلاد.