تغيرت لهجة الإعلام السوري في الأيام الأخيرة، وصار أكثر هدوءاً في التعاطي مع الأحداث، وغابت عنه نسبياً التعابير ذات الصبغة التعميمية. قبل بدء الحملة العسكرية على منطقة جسر الشغور، ظهرت تصريحات تتحدث عن وجود مسلحين يتمترسون في المنطقة من دون تحديد لهويتهم السياسية. صفة المسلحين الذين بات وجودهم وسعة انتشارهم اقتناعاً يزداد رسوخاً لدى الشارع السوري، لم تزد الأمر غموضاً، ولم تفسر الوضع، لكنها أعفت المراقبين من الدوران في دوامة الأوصاف الأخرى، التي ركزت في الأشهر الثلاثة الأولى على العصابات المسلحة الإرهابية والمندسين والسلفيين والمخربين.العصابات تروّع الآمنين. لطالما ترددت هذه الجملة في الإعلام الرسمي السوري خلال الأيام الأولى من أحداث درعا. الجيش يطارد العصابات المسلحة، أو الجيش يقوم بمهمته الوطنية ويطهر أحياء درعا من العصابات المسلحة. ويذهب الخيال بعيداً وراء تعبير العصابات. وتكثر الأسئلة: من هي هذه العصابات المسلحة؟ وكيف ظهرت فجأة في سوريا التي يعد نظامها الأمني محكماً جداً؟
العصابات أشكلت على الكثيرين، وخصوصاً أن تعبير حرب العصابات ثوري في الذهنية العربية العامة. فهذا النوع من القتال استعاره الفدائيون الفلسطينيون من تجارب فيتنام، وحركات التحرر في أميركا اللاتينية. وظل الشارع ينظر إلى رجل حرب العصابات على أنه مقاتل غيفاري يؤمن بالتغيير من خلال فوهة البندقية. ورغم أن حروب العصابات في أميركا اللاتينية لم تكن بلا دماء، فإنها حظيت بالتبجيل، حتى إن الكنيسة في أميركا اللاتينية ابتدعت لاهوت التحرير، وسقط العديد من رجال الدين المسيحيين على درب الشهادة، وهم يقاتلون الدكتاتوريات إلى جانب عمال شركات الموز في كولومبيا والفلاحين في بوليفيا والبيرو ونيكاراغوا، ورفع بعضهم إلى مرتبة عالية في الوجدان الشعبي، ومنهم رمز حاز لقب قديس العصابات الشهيد في كولومبيا.
العصابات ظهرت في الأيام الأولى للحركة الاحتجاجية، وكان أول اتهامات وجهت إليها خلال تظاهرات جرت في مدينتي اللاذقية وبانياس، وفيما ظلت لغزاً إعلامياً استعصت على السلطة فكفكة طلاسمه، لم يصدق الشارع في غالبيته ذلك، وعدّ الأمر مجرد ذريعة للأجهزة لكي تبرر لنفسها عمليات القمع الدموي والرد بالرصاص على المتظاهرين المسالمين. لكن فئة من الرأي العام أخذت برواية العصابات في المدينتين، اللتين فيهما أنصار لكل من رفعت الأسد وعبد الحليم خدام. وبدا للبعض أن استغلال الفرصة من جانب خدام ورفعت على هذا النحو قابل للتصديق، فهما لا يستطيعان تحريك الشارع، وهما مرفوضان من الحركة الاحتجاجية التي كانت في ذلك الحين مطلبية مئة في المئة ولا مكان فيها للسياسة، ولكن ذلك لا يمنعهما من تصفية الحسابات وقلب الطاولة على النظام من خلال إذكاء شرارة نزاع مسلح. لذلك، لجأ أنصارهما إلى إطلاق النار على الطرفين، المتظاهرين وعناصر الأمن. وهدفهم من جهة تصوير الأمن كأنه يقتل المتظاهرين، ومن جهة ثانية تحريض المتظاهرين للخروج عن الخط السلمي، وبذلك يُورَّط النظام في لعبة الدم حتى تزداد الاحتجاجات وتأخذ الصبغة السياسية، ويتلطخ سجلّه في نظر العالم. اختفى تعبير العصابات، لكنه لم يسحب من التداول، إلا أن السلطة لم تقدم حتى اليوم رواية تحدد فيها طبيعة هذا العدو الذي ظهر فجأة بهذه القوة والتنظيم، إلى حد أنه ما إن يُجتَثّ في منطقة حتى يظهر كالسرطان في منطقة أخرى بعيدة جغرافياً، كالمسافة بين درعا وجسر الشغور، أو بين معرة النعمان والبوكمال.
فئة أخرى رماها الإعلام السوري بتهمة التخريب والقتل من أجل إيصال رسالة سياسية، هي المندسون. وهذه أثارت من السخرية المرة، أكثر مما تعاطى معها الرأي العام بجدية، وذلك بغض النظر عن حقيقة وجود هؤلاء. فئة كهذه حركت خيال بعض النشطاء على الفايس بوك، الذين ركّبوا عليها كليبات وأغاني تقول إحداها «قالوا عنا مندسين، ونسيوا يقولوا سوريين». وتبلغ السخرية مداها حين تنقل وكالات الأنباء صورة امرأة ملتحفة بالعلم السوري في إحدى تظاهرات الاحتجاج، وقد كتبت على ظهرها بخط عريض: مندسة.
ويروي القادمون من سوريا أن التعبير لقي صدىً شعبياً واسعاً في صورة عكسية وشاع في الشارع وصار الناس يتداولونه على سبيل النكتة، وتحول إلى رمز ذي قيمة تهكمية ومدعاة للسخرية من شعبية النظام، وبات توظيف المفردة تعبيراً عن عجز عن إنتاج رواية مقنعة عن مسلسل الدم. استخدام صفة المندسين لكشف قناع العناصر المسلحين بدا سطحياً ومبتذلاً، وحتى أقرب إلى الحشو منه إلى التفسير، ويدل ذلك على أن النظام لم يتمكن من بلورة خطاب إعلامي ناجح، ولهذا السبب توقف الإعلام عن حديث المندسين. في موازاة رمي التهمة على العصابات المسلحة الإرهابية والمندسين، جرى الحديث عن السلفيين، وهنا صارت الصورة أقرب وأكثر وضوحاً على المستوى المحلي، لكنها مختلطة على الصعيد الخارجي. ورغم أن قطاعاً من الشارع لم يصدق بداية رواية السلفيين، فإنها بقيت إلى اليوم حمّالة أوجه، بالنظر إلى امتدادات الحركة السلفية في المنطقة وطبيعة توجهاتها الإرهابية.
مبعث عدم تصديق الشارع لظهور حركة سلفية مسلحة يعود إلى عدة أسباب: الأول هو أن الحركة السلفية في سوريا تحت السيطرة منذ زمن طويل، وهي عبارة عن جزر متناثرة، منها من يتعاطى مع السلاح، ومنها من ينصرف إلى التدين الصرف والتصوف والدروشة. والذين حملوا السلاح من السلفيين لهم قصة طويلة مع الأجهزة السورية التي اخترقتهم، حسب شهادات خبراء محليين وغربيين، وتؤكد ذلك المعلومات التي سربها الأميركيون عن الجهاديين السوريين في العراق، الذين تجاوز عددهم في مرحلة من المراحل 10 آلاف مقاتل. الأميركيون يؤكدون أن الاجهزة السورية غضت الطرف عن هؤلاء، وسمحت لهم بالتسلل إلى العراق لمقاتلة القوات الأميركية، ولكن القسم الأكبر من هؤلاء تعرض للإبادة منذ عدة سنوات في معارك في الفلوجة والموصل، ومن عاد منهم إلى سوريا أودع السجن أو بقي تحت المراقبة. ولا تقتصر هذه الفئة على سوريين فقط، بل هناك عرب وأجانب، من السعودية ولبنان والأردن واليمن والمغرب وتونس والجزائر، قدموا من المهاجر. وكانت سوريا هي معبر هؤلاء للقتال في العراق ضمن صفوف تنظيم القاعدة. وسط التركيز على اتهام السلفيين، ظهرت رواية تنسب إلى جماعات كويتية صلتها بتيار سلفي سوري نما في الظل خلال السنوات الخمس الأخيرة. الرواية نشرها موقع «عكس السير» السوري، نقلاً عن موقع «شبكة نهرين نت الإخبارية» العراقية، من دون نفي أو تأكيد صحة ما جاء فيه من مصادر سورية أو كويتية. ونقل التقرير الإخباري عن مصدر كويتي مطلع لم يسمه قوله «إن ما يحدث في سوريا الآن، هو نتاج عمل دؤوب ومضنٍ بذلته أطراف دولية وإقليمية وكويتية»، واصفاً «الدور الذي مارسته جهات سلفية نيابية وسياسية ودينية في أحداث سوريا بأنه بالغ الخطورة، وساهم في التصعيد الأمني ضد النظام السوري، في غفلة من أجهزة الأمن الكويتية والسورية». وأضاف المصدر أن «عناصر من التيار السلفي في الكويت أسهموا في جمع الأموال وإرسالها إلى داخل سوريا، وخصوصاً من خلال مدينة درعا الحدودية مع الأردن، حيث نجحوا في إيجاد بؤر للتنظيم السلفي داخل مدينة درعا والمناطق الريفية القريبة منها منذ أربع سنوات، ومن هناك توسع التنظيم إلى حمص وحماة واللاذقية ومناطق ريفية أخرى، مقابل رواتب مغرية لكل عنصر ينتمي إلى هذا التنظيم يصل ما بين 500 إلى ألف دولار شهرياً». وكشف المصدر عن «تورط جمعية إحياء التراث الإسلامي في تمويل جزء من نفقات هذا التغلغل العقائدي والأمني إلى سوريا». وتابع قائلاً إن «جمعية إحياء التراث الإسلامي في الكويت تصرف ملايين الدولارات إلى داخل سوريا لصرف رواتب شهرية لاستقطاب الشباب المتدين، للانضمام إلى التيار السلفي، وتنظيمهم على شكل ميليشيات يمكن الاستفادة منهم في أي مواجهات قد تندلع مع الأجهزة الأمنية، كذلك غطت عمليات التبرع وإرسال الأموال لبناء المساجد لتكون مقارّ لهذا التيار». وأضاف: «إن تحركات جمعية إحياء التراث الإسلامي تجري بالتنسيق مع عناصر أمنيين ودينيين وسلفيين متطرفين في الكويت، أمثال محمد هايف المطيري ووليد الطبطبائي وخالد السلطان وضيف الله بورمية، وهؤلاء لا يزالون يواصلون التحشيد السلفي في الكويت والتحريض على نشر المقالات في الصحافة الكويتية ودعم قناتي (وصال) و(صفا) في التحريض المذهبي الطائفي ضد النظام السوري والهجوم على الطائفة العلوية».
ورد الطبطبائي على اتهامات الموقع السوري، ورأى فيها «محاولة لتصوير الثورة الشعبية السورية على أنها ثورة مذهبية تحظى بدعم التيار السلفي الكويتي مالياً». وأكد أن الموقف الكويتي الداعم للثورة السورية والثورات العربية في كل من اليمن ومصر وتونس وليبيا هو موقف شعبي يعبر عن جميع التيارات السياسية الكويتية، وليس دعماً محصوراً في التيار السلفي.
قد يكون نفي الطبطائي صحيحاً، وقد لا يكون، وكان الأمر يحتاج من السلطات السورية نفسها أن تقدم رواية متماسكة في هذا الصدد، وخصوصاً أنها أعلنت مصادرة أسلحة وأموال، واعتقلت أشخاصاً اتهمتهم بالضلوع في استخدام السلاح ضد الجيش وقوات الأمن والمواطنين، وقالت في أكثر من مرة إن هدف هؤلاء هو إقامة إمارة إسلامية، مرة في درعا، وأخرى في بانياس. وما يضعف من الرواية الرسمية أنها ليست على مستوى خطورة المشروع الذي تتحدث عنه، فضلاً عن كل المعلومات التي تؤكد أن الأجهزة السورية ليست غافلة عن تحركات التيار السلفي منذ عدة سنوات، بل إن التقديرات كانت تشير إلى أن النظام كان سيقوم بخطة استباقية لاعتقال هذه الجماعات لكي لا تركب الموجة الاحتجاجية وتقوم بأعمال تخريب. ولأن هذا الأمر لم يحصل، فإنه يطرح أسئلة ويثير الشكوك من حول محاولة بعض الأجهزة توظيف ورقة الحركة السلفية. لكن هذا التوظيف يصبح سلاحاً ذا حدين؛ فالحركة السلفية قد تستغل الفوضى وتعمل لحسابها. لكن في جميع الأحوال هناك معلومات شبه رسمية يجري تداولها في أوساط إعلامية قريبة من سوريا، تفيد بأن دمشق ستذيع قريباً الرواية الكاملة لتورط القوى السلفية في الأحداث، وستسمي شخصيات كويتية وسعودية. وهنا تحضر مفارقة هامة، وهي تتمثل في رد فعل الحركة السلفية في السعودية على اتهام النظام السوري للسلفية. وبرزت أصوات تدافع وتشرح طبيعة الحركة السلفية في السعودية، التي تعد نفسها ممثلة للإسلام حسب أصول السلف. ومن المعروف أن الحركة الوهابية، صاحبة الكلمة الأولى في السعودية، هي الحاضنة الفعلية لتنظيم القاعدة، ورفض شيوخها الكبار إصدار فتاوى تدين الأعمال التي قام بها التنظيم.
بعد مواجهات النظام السوري مع الإخوان المسلمين، والنهاية المأساوية في حماة سنة 1982، أصبحت الأنشطة الإسلامية المعارضة للنظام نادرة، لكن أعداداً كبيرة من المتدينين ظلت ترتاد الجوامع، وهناك من يشارك في حلقات قراءة القرآن، ويرتدون ألبسة متواضعة. كذلك إن أعداداً كبيرة من النساء بدأن بارتداء الحجاب، ونشأت ظاهرة القبيسيات كحركة دينية نسوية وانتشرت بسرعة، ولم يتنبه النظام لخطرها إلا في السنوات الأخيرة. وقد فسر كثير من البحاثة الغربيين في الشؤون السورية أن هذه الطقوس والمظاهر هي محاولة للنأي عن النظام، وربما معارضة له. أما تساهل النظام مع هذه المظاهر فهو يعود إلى سببين: الأول أن هذه الممارسات لا توحي بتهديد سياسي ما دامت في إطار الطقوس. والثاني أنه كان يريد من ذلك امتصاص تأثير الإخوان المسلمين وتجفيف منابع تسييس الإسلام.
المسلحون، صار التعبير يتردد كثيراً في الإعلام السوري، وحل محل العصابات والمندسين والسلفيين، وتجاوز الرواية الرسمية إلى أوساط سياسية وإعلامية أجنبية، كالولايات المتحدة وروسيا. لكن لا أحد يحدد هوية هؤلاء. ليسوا من السلفية ولا من العصابات. لكن الرواية التي تسعى المعارضة إلى ترويجها تقول إنهم عناصر منشقون عن الجيش، وهو ما رأى البعض أنه يفسر تأخر الجيش في اقتحام جسر الشغور. وفيما تفيد الرواية الرسمية بأن التأخير هو للإفساح أمام الأهالي للخروج من المنطقة لتلافي إيقاع ضحايا بين المدنيين، تقول أوساط إعلامية من الجانب التركي إن التأخير حصل نتيجة تحصن أعداد كبيرة من المسلحين، انسحبوا بعد ذلك إلى جبل الزاوية الذي تشير التقديرات إلى أنه سيشهد معركة قريباً. ولا يمكن فصل ذلك عن الخطة التي يعمل بمقتضاها الحل الأمني لتأمين المنافذ الحدودية مع بلدان الجوار، فبعد الأردن ولبنان وتركيا، جاء دور العراق، حيث نُقلت قوات عسكرية إلى دير الزور ومنطقة البوكمال.



دعوى سورية على «فرانس 24»

رفعت السفيرة السورية في باريس، لمياء شكور، دعوى على قناة «فرانس 24» لدى مدعي الجمهورية الفرنسية بتهمة «إشاعة أنباء كاذبة»، على خلفية بث مقابلة مع امرأة انتحلت شخصيتها وأعلنت استقالتها. وقالت وكالة الأنباء السورية «سانا» نقلاً عن بيان أصدرته السفارة السورية في باريس إن السفيرة «تقدمت في 15 حزيران بادعاء لدى السيد مدعي الجمهورية الفرنسية أمام المحكمة البدائية في باريس (ضد فرانس 24) بتهمة إشاعة أنباء كاذبة». وأكّد بيان السفارة السورية أن «الاستمرار في نشر نبأ الاستقالة المزعومة، من قبل وسائل إعلامية ومواقع إنترنت يعرّض هذه الوسائل والمواقع لملاحقات قضائية».
وكانت القناة الإخبارية الفرنسية قد بثت مساء السابع من حزيران تصريحات لامرأة قدمت نفسها على أنها لمياء شكور، وأعلنت استقالتها رفضاً «لدورة العنف» في سوريا، إلاّ أن شكور سارعت الى نفي هذه التصريحات، مشيرةً إلى أن امرأة انتحلت صفتها.
(أ ف ب)