تونس | رأت الثورة التونسية ذات الطابع الموغل في السلمية أنه لا مجال لطيّ صفحة ماضي الاستبداد من دون محاسبة رموز تلك الحقبة. لم تعلق المشانق في الشوارع، ولم تؤلَّف المحاكم الثورية، كما يجري عادةً في الثورات الكبرى التي غيّرت مجرى التاريخ، بل سيقتصر الأمر على اللجوء إلى محاكم النظام السابق نفسها والأجهزة نفسها، التي استخدمت طوال عشريات القمع والقهر، لمعاقبة من كان يوظف تلك الآليات لتصفية خصومه. وجهت النيابة العمومية التونسية، التي طالما نكّلت بالمعارضين ولفّقت لهم التُهم جُزافاً، أصابع اتهامها هذه المرّة إلى ولي نعمتها السابق: الرئيس المخلوع زين العابدين بن علي وزوجته ليلى الطرابلسي. غصّت المحكمة صباح أمس على غير عادتها، ليس للنظر في قضايا جديدة ضدّ الحقوقيين والصحافيين، بل للتطفل على أطوار قضية هي اليوم حديث الشارع التونسي.
يرى البعض أن وسائل الإعلام التونسية أدت منذ فرار بن علي دوراً خبيثاً ومتحايلاً، بحيث انبرت لرفع الأغطية عن الثروات الهائلة لبن علي وأقربائه، وما كفّت عن تسليط الضوء على جرائمه وفظاعاته. وكان الحلقةَ الأخيرة في هذا السيناريو عرضُ بن علي وزوجته أمام المحكمة الاستثنائية التي لا يتوافر فيها حق الطعن والاستئناف، وبالتالي يصبح حكمها باتاً ونهائياً. ويرفض القانون التونسي توكيل المتهم لمحامين إذا لم يمثل أمام المحاكمة، وظلّ في حالة فرار، مثلما هي حال بن علي وزوجته حالياً. وحتى اللحظة، لا يستطيع أحد أن يقدّر ما هو مصير الطلب التونسي الذي وُجّه إلى السلطات السعودية لتسليم الرئيس المخلوع، أو مذكرات الجلب الدولية التي أصدرها «الإنتربول» الدولي بحقه.
المحاكمة المثيرة للجدل أثارت حفيظة الرئيس المخلوع، الذي خرج عن الصمت الإجباري الذي تفرضه شروط الاستضافة السعودية، ليرفض «بشدّة التهم التي يريدون إلصاقها به»، مؤكّداً «أنه لم يملك يوماً هذه المبالغ الكبيرة، التي زعموا العثور عليها في أحد قصوره».
وروى بن علي أنّه تعرّض لخديعة اضطرته إلى أن يغادر البلاد. وقال في بيان أصدره محاموه إن رئيس الأمن الرئاسي حضر إليه في مكتبه، وقال له إن أجهزة استخبارات من دول «صديقة» قدّمت معلومات عن وجود مؤامرة لاغتياله، وأنه اقتنع بأن يستقل الطائرة التي كانت تحمل زوجته وأبناءه لمكان آمن في السعودية، لكن بنية العودة على الفور. لكن بعد الوصول إلى جدة عادت الطائرة إلى تونس من دون انتظاره بما يتعارض مع أوامره.
ونفى بن علي أيضاً الاتهامات بحيازة أسلحة نارية ومخدّرات، مشيراً إلى أن «الأسلحة المزعومة التي عُثر عليها ليست سوى أسلحة صيد، وغالبيتها مجرّد هدايا من رؤساء دول خلال زيارتهم لتونس. أما المخدرات فليست سوى كذب وافتراء وعار». ووجّهت النيابة العمومية والمكلّف العام بنزاعات الدولة إلى بن علي وزوجته تهمة «الاستيلاء على أموال عمومية» التي تشمل الاستيلاء بنية الاستملاك، وشراء مادة مخدّرة وتوريدها وتهريبها بنية الاتجار بها، وكذلك إعداد واستغلال وتهيئة محل لتعاطي المخدرات وإخفائها وتخزينها وإدخال أسلحة وذخيرة نارية، وعدم إعلان امتلاك آثار منقولة.
ويواجه بن علي نحو 90 تهمة أخرى تتعلق بالقتل والتعذيب وغسل الأموال خلال فترة حكمه. تهم يُقلّل من قيمتها الرئيس المخلوع، الذي ادّعى أنّه لم يصدر أوامر بإطلاق الرصاص الحي على المتظاهرين أثناء الثورة التونسية، على عكس ما كشفته اللجنة الوطنية التونسية لاستقصاء الحقائق في التجاوزات والانتهاكات، بأن الجيش رفض تطبيق أوامر كان قد أصدرها الرئيس المخلوع تقضي بقصف «حي الزهور» في مدينة القصرين غربي تونس، بقنابل المدفعية والطائرات، لقمع المتظاهرين الذين طالبوا بتنحيه عن الحكم.