من على «المحروسة»، اليخت الملكي السابق الذي أبحر عليه الخديوي إسماعيل باشا يوم الافتتاح الأصلي لقناة السويس، عام 1869، سيعلن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي تدشين «قناة السويس الجديدة» في حفلٍ «دولي» ضخم فاقت كلفته، وفق التقارير، ثلاثين مليون دولار. سيقف السيسي إلى جانب كوكبة من زعماء الدول، من المتوقع أن يتقدمهم الرئيس الفرنسي هولاند ورئيس الوزراء الروسي ديمتري ميدفيدف، بينما تحلّق في الجو طائرات «إف ــ 16» الأميركية الصنع و«رافال» الفرنسية، الجديدة، والأخيرة تمّ توريد ثلاثة نماذج منها منذ أسابيع حتى تتمكن من المشاركة في العرض.نقاط التشابه مع افتتاح 1869 لا تتوقّف عند استخدام اليخت الملكي. أوبرا «عايدة»، التي ألّفها الإيطالي «فيردي» بتكليف من الخديوي لمناسبة افتتاح القناة، ستصدح موسيقاها أمام أكثر من خمسة آلاف شخصية محلية ودولية دُعيت من مختلف القطاعات...

من رؤساء الدول إلى المشاهير والفنانين ورجال الأعمال (الرئيس الفلسطيني محمود عباس سيكون حاضراً بالطبع). أمّا الدعاية الحكومية، التي تقدّم القناة الجديدة على أنّها «هدية مصر للعالم»، فقد وصلت إلى ساحة «تايمز سكوار» في نيويورك، حيث تزفّ الشاشات الإلكترونية إلى الجمهور الأميركي خبر اكتمال القناة.
داخلياً، الجو الاحتفالي، برعاية الحكومة، وصل إلى مداه، مع إعلان اليوم إجازة رسمية، وتزيين الشوارع في القاهرة والمدن الكبرى، وإصدار طوابع خاصة بالمناسبة، بينما الإعلام يفيض بالأخبار عن القناة ومنافعها وكيف أنها ستغيّر وجه مصر واقتصادها. الموضوع لا يقتصر على البروباغاندا التلفزيونية، فقد انبرت، لمديح مشروع القناة، شخصيات مهمة كالمفكر سمير أمين الذي أثنى على أن المشروع قد بني بتمويلٍ مصري وطني، وأن جيش البلاد قد «أنجز المشروع بالكامل، تصميمه وإدارة تنفيذه»، مضيفاً أن هكذا مشاريع ــ وإن نُعتت بأنها «فرعونية» ــ ضرورية لتنمية بلد بحجم مصر، إذا ما اقترنت بخطط للتنمية الصناعية والزراعية على الطريقة الصينية.
في الوقت نفسه، يسخّف الإعلام المعادي للسيسي، سواء في دوائر «الإخوان المسلمين» أو الوسائل التي تموّلها الدوحة، مشروع «القناة الجديدة» بأكمله، مصرّاً على تسميته بـ«التفريعة»، من باب الازدراء، ومقارنتها بـ«الفنكوش»، وهي سلعة وهمية روّج لها عادل إمام في أحد أفلامه.
وبينما يطنب الإعلام الحكومي في مديح القناة، وسرعة تنفيذها، ومصريّة تمويلها، يتكلّم «الإعلام المعادي» عن «مخاطرها»، وأنّها هجّرت أهل سيناء، وتهدد الأمن القومي، وستدمّر البيئة والثروة السمكية على طول القناة. فما هي بالضبط، هذه «القناة/ التفريعة»؟ وهل هي تمثّل، بالفعل، إنجازاً هو ــ كما يقول كتيّب دعائي وزعته السفارة المصرية ــ «نقطة تحول كبرى في تاريخ مصر المعاصر»؟

«قناة» أو «تفريعة»

بداية، يصعب الحديث عن «القناة» الجديدة من دون وضع التعبير بين مزدوجين، لأن ما يتم تدشينه اليوم ليس «قناة» ــ بالمعنى التقني للكلمة ــ تصل بين جسمين مائيين، ولا هي قناة موازية لتلك الأصلية، التي يبلغ طولها، من بورسعيد إلى السويس، 193 كلم، بل إنّ التعبير المناسب لتوصيف المشروع هو «مجرى ملاحي». ما تم بناؤه هو قناة ثانوية بطول 35 كلم، بين تفريعة البلاح شمالاً والبحيرات المرة جنوباً، وتمتدّ بموازاة القناة الحالية شرقاً، لتؤمّن «خطاً ثانياً» للسفن المارة في هذا القطاع. كذلك تمّ توسيع وتعميق 37 كلم إضافية من مجرى القناة (أكثرها في نطاق البحيرة الكبرى، جنوب القناة المستحدثة) حتى تتمكن السفن، في هذه الأجزاء أيضاً، من العبور في الاتجاهين. بالمعنى الهندسي البحت، فإن القناة «مفيدة» بلا شكّ، فالمنطقة التي تخدمها، في منتصف القناة تقريباً، كانت تمثّل «عنق زجاجة» بالنسبة إلى قوافل السفن التي تعبر السويس، خاصة تلك المبحرة من الشمال باتجاه الجنوب.


القناة الأصلية، التي حفرتها سواعد الفلاحين المصريين، كانت تتسع لمرور السفن في خطّ واحد، وكانت السفن تعبر السويس في قوافل تنتظر، في أماكن محددة على طول القناة، عبور تلك التي تحتل المجرى المائي في الاتجاه المعاكس قبل أن تواصل رحلتها، ومن هنا تنتج «فترة الانتظار» في القناة.
مع مرور السنين، تمّ توسيع عدّة أجزاء من قناة السويس، لتخفيض مدة الانتظار، وإنشاء تفريعات لتمكين العبور في الاتجاهين، حتى صار نصف طول القناة، تقريباً، مزدوج المسار. ولكنّ القوافل، حينما تجتاز تفريعة البلّاح تجاه البحيرات جنوباً، كانت تواجه حالة أشبه بأن تسير على أوتوستراد واسعٍ باتجاهين، لتجده فجأةً قد تقلّص إلى طريقٍ بمسارٍ واحد، تتقاسمه السيارات الغادية والآتية. ومع افتتاح «القناة الجديدة»، ستحلّ هذه «العقدة» وينخفض وقت الانتظار للسفن ــ بالمعدل ــ من 18 إلى 11 ساعة. هذه الساعات السبع التي تم توفيرها هي، باختصار، مجمل الفائدة العملية من «مشروع القناة».
بعيداً عن الأرقام الخيالية التي ترمى في الإعلام المصري عن عوائد المشروع (مئة مليار دولار ومئة مليار جنيه...)، فإن الرقم «الرسمي» الوحيد الذي تتناقله وسائل الإعلام العالمية هو تصريح لـ«هيئة قناة السويس» يتنبّأ بأن عدد السفن التي تعبر القناة يومياً سيرتفع من 49 حالياً إلى 97 عام 2023، ثم ترتفع عائدات العبور، بالتوازي، من 5.3 مليارات دولار إلى 13.8 ملياراً بعد ثماني سنوات. لكن هذا الرقم يعتمد على استشرافٍ للنمو العالمي، وليس على مقدرات القناة، ولا أحد في الأسواق المالية يتوقّع أن تنمو الملاحة البحرية وفق هذه التقديرات المغرقة في التفاؤل (أكثر من 9% سنوياً حتى 2023).

بين الدعاية والواقع

بالمعنى الحسابي، فإنّ شق التفريعة الجديدة وتقليص الانتظار يسمحان بمرور عددٍ أكبر من السفن، ولكن هذه الزيادة «النظرية» لن تترجم إلى حركة أكبر إلا لو كانت القناة، قبل التوسعة، قد وصلت إلى طاقتها الاستيعابية القصوى، وكانت هناك سفنٌ وخطوط ملاحية تتجنب سلوكها بسبب الازدحام أو ارتفاع رسم العبور، بينما القناة، أصلاً، تعمل دون طاقتها الحالية (أكثر من 75 سفينة يومياً)، وبإمكانها استيعاب الزيادة الطبيعية في حركة التجارة الدولية لسنوات مقبلة.

القناة في وضعها
الحالي تعمل أصلاً دون طاقتها القصوى، وبإمكانها استيعاب الزيادة لسنوات مقبلة

في الحقيقة، فإن مجرى السويس اليوم ــ بحسب إحصاءات مجموعة «بلومبرغ» ــ يشهد حركةً تقلّ عشرين في المئة عمّا كانت عليه عام 2008، لذا، يصعب الحكم بأن «القناة الجديدة» سيكون لها أثرٌ إيجابي مباشر في عدد السفن التي تمر من السويس. وتقنياً، التفريعة الجديدة لن تجعل القناة صالحة للملاحة الحرّة، إذ يظلّ أكثر من ثلثها طريقاً مائية باتّجاه واحد، وستستمر الحاجة إلى نظام القوافل. من جهة أخرى، فإن تعميق بعض أجزاء القناة، وإن كان يسمح بعبور عدد أكبر من الناقلات الضخمة في وقت واحد، فهو لن يفتح الباب أمام فئات جديدة من السفن لم تكن قادرة على عبورها من قبل.
هناك، في صناعة بناء السفن، مقياس يدعى «سويسماكس» (Suezmax) يمثّل الغاطس (وفي النتيجة الحجم والحمولة) الأقصى للسفينة القادرة على استخدام القناة، وتوجد، بالتوازي، مقاييس «بنماكس» و«ملقاماكس» و«أفراماكس»... إلخ. أما اليوم، وبعد مشاريع متتالية لتعميق مجرى السويس، فلا يوجد إلا عددٌ قليل من السفن ــ أكثرها ناقلات نفط عملاقة وحاملات للحديد الخام سعتها مئات آلاف الأطنان ــ تفوق حدّ «سويسماكس»، وهذا لن يتغيّر مع افتتاح «القناة الجديدة».
رغم ذلك، فإن ما يثير الإعجاب، بحقّ، هو مدة التنفيذ، التي جرت خلال أقل من سنة (للمجرى المائي فحسب، إذ لا تزال هناك مشاريع مكمّلة، كأنفاق مواصلات تحت التفريعة، لم تنجز بعد). وهذا كان من الأسباب التي رفعت كلفة البناء ــ بين 8 و9 مليارات دولار ــ وفي الوقت نفسه طرح سؤالين: أوّلاً، ما هي الحاجة إلى هذه العجلة لإنهاء المشروع، والسفن لا تزدحم على مدخل السويس؟ ثانياً، السرعة في التنفيذ أدّت إلى الاعتماد على شركات أجنبية للقيام بجلّ أعمال الحفر والتنفيذ، بل تقول التقارير إنّ مسافة ال72 كلم التي تمّ العمل عليها (القناة الجافة الجديدة والمجاري المائية التي وُسّعت) قد تمّ تقسيمها إلى ستة أجزاء، أعطي كلٌّ منها لإحدى الشركات الستّ التي استدعيت من الخارج (التحالف يضم شركات من هولندا وبلجيكا والإمارات وغيرها). كما قال خبير مالي معلّقاً على سرعة التنفيذ: «إذا رميت كميات كافية من المال على مشروعٍ معيّن، فأنت قادرٌ على تنفيذه ضمن المهلة التي تريدها».

تدشين أم تتويج؟

إذا كانت «القناة الجديدة» محدودة التأثير، وقد تمّ بالفعل بناء تحويلات مشابهة، ثلاث في 1955 ومثلها في 1980، لا تقلّ طولاً عن «القناة» الجديدة، وإذا كان البناء قد نفّذ عبر شركات أجنبية (استوردت، بغية إنهاء المشروع بسرعة، أكثر آلات الحفر والشفط الضخمة في العالم)، فما المميز فيه حتّى يستحقّ كلّ هذه الاحتفالية؟ يقول الباحث في مركز «كارنغي الشرق الأوسط» في بيروت عمرو عدلي، إن إنهاء المشروع ــ التحدي، ضمن 12 شهراً، هو دليلٌ للعالم ولحكوماته على أنّه قد أضحى في مصر، بعد سنوات من غياب الاستقرار، نظام «قادر على التنفيذ» ويمكن الاعتماد عليه. بل لعلّ فكرة «الإنجاز» نفسها، والاحتفال السياسي الضخم بحضور قادة العالم، العائدُ الأبرز من المشروع.
حفل الافتتاح، الليلة، ليس المرة الأولى (ولا الثانية) التي يجري فيها استحضار الخديوي إسماعيل وذكرى «الافتتاح الأسطوري»، الذي أقامه عام 1869 بحضور إمبراطورة فرنسا ونخبة من وجوه أوروبا. وعام 1975، تمّت أيضاً إعادة طلاء «المحروسة» (التي صار اسمها «الحرية»)، وإخراجها من مرساها، وأقام أنور السادات ــ أيضاً ــ عرضاً مبهرجاً للاحتفال بإعادة افتتاح القناة... واقتراب السلام مع إسرائيل.

تمّ بناء ست تحويلات مشابهة للمجرى الجديد في عامي 1955 و1980، وهي لا تقلّ طولاً عنه

في حالة السادات والسيسي، هناك رمزية ما، واعية أو غير واعية، في اللجوء إلى شخصية الخديوي إسماعيل بالذات، وتقمّص دوره في تلك الليلة الشهيرة (تتجاوز أنّه كان منظّماً ناجحاً للحفلات): إسماعيل، وفق الصورة النمطية التي رسخت عنه في الوعي الشعبي، كان أكثر حكام مصر استلاباً بفكرة «الغرب»، وحلمه أن يجعل مصر «قطعة من أوروبا»، وقد جهد لفتحها أمام الرساميل الغربية ودمجها في الاقتصاد العالمي بلا شروط (محمّد علي باشا، كجمال عبد الناصر، يمثل نموذجاً مختلفاً).
جلّ ما تمنّاه إسماعيل في المقابل ــ وسعى إلى تمثيله رمزياً على مسرح افتتاح القناة ــ كان أن ينظر إلى مصر كـ«قوة أوروبية أخرى»، وليس كمقاطعة أفريقية، وأن يكون عرشها عضوٌ شرعي معترف به في عائلة الملكيات الأوروبية. لهذا السبب، ربما، كلما أراد حكام مصر استحصال شرعية «دولية»، أو تأكيد رضا الغرب وصداقة حكامه، يستذكرون الخديوي.
كان يمكن لثمانية مليارات دولار أن تبني خطاً أو اثنين للمترو، أو أن تعيد بناء منظومة سكك الحديد المتقادمة والمتهالكة في مصر، وخدمة ملايين المواطنين في حياتهم وأشغالهم، أو، حتى، إنشاء قطارٍ سريع (بالمقاييس العالمية) بين القاهرة والإسكندرية. ولكن هذه الأموال أنفقت للإسراع في شقّ مجرى مائي لن تحتاج إليه السوق لسنوات مقبلة، واحتفالٍ باذخ يقدّم عبد الفتاح السيسي إلى العالم، ملكاً جديداً على مصر.



من بنى المجرى الجديد؟

على عكس الادعاءات القائلة إن «القناة الجديدة» هي مشروعٌ مصريّ خالص، فإنّ الجانب الوحيد الذي تولّاه المصريون بأكمله كان التمويل الذي جُمع محلياً عبر سندات دينٍ تعطي فائدة سنوية قدرها 12 في المئة. أمّا أعمال الحفر والتوسيع، فقد تمّت أساساً عبر تحالف «كونسورسيوم» من الشركات الأجنبية، تسلّمت خمسة أجزاء من المشروع من أصل ستة، فيما تُرك القسم السادس ليتولاه الجيش المصري. الشركات الأجنبية المساهمة أكثرها يختص في أعمال البنى التحتية والحفر، بينها اثنتان هولنديتان («فان اوورد» و«رويال بوسكاليس ويستمنستر»)، واثنتان من بلجيكا ولوكسمبورغ (مجموعتا «يان دي نول» و«ديمي»)، إضافة إلى شركة أميركية («غريت لايكس») وأخرى إماراتية («الجرافات الوطنية»).