رغم محاولة التلطيف التي قام بها وزير الخارجية الإيطالي، فرانكو فراتيني، للمشكلة الناتجة من دعوة بلاده إلى عقد مؤتمر للقبائل الليبية تضم «ما بين 200 و300 شخصية» في روما، بإعلانه تأجيل هذا «الاجتماع الموسّع» الذي كان مقرراً الجمعة الماضي، تؤكد مصادر المعارضة الليبية إلغاءه وليس تأجيله، لأن الدعوة أتت من الحكومة الإيطالية منفردة من دون التنسيق مع المجلس الوطني الانتقالي والقوى الوطنية الليبية المعارضة للعقيد معمر القذافي.لقد حمل مندوب المعارضة الليبية لدى الأمم المتحدة، عبد الرحمن شلقم، الدعوة الى وجهاء وزعماء القبائل ومسؤولي المجتمع المدني في ليبيا من دون علم المجلس الوطني الذي يمثل الثوار الليبيين. هذا ما يؤكده المعارض المقيم في واشنطن، الدكتور صالح جعودة، خلال اتصال هاتفي أجرته معه «الأخبار». ففي نظر جعودة وبعض أطياف المعارضة الليبية لا يمثّل انشقاق شلقم عن العقيد معمر القذافي سبباً ليقوم بمبادرات منفردة مع حكومات أجنبية من دون الرجوع الى المجلس الانتقالي والقوى الوطنية الناشطة على الساحة الليبية.
بعض الكوادر في المعارضة الليبية لا ترى أن شلقم مؤهل الآن لأن يقوم بمبادرات كهذه،«لقد كان سفيراً لنظام العقيد معمر القذافي لدى روما لمدة عشر سنوات، ورغم أنه انضم الى الانتفاضة في آخر شباط وأصبح ممثل المعارضة في الأمم المتحدة، فهو لا يزال خارج إطار المجلس الوطني الانتقالي وليس عضواً في المجلس التنفيذي للمعارضة».
ثمة أسباب عديدة تقف وراء رفض القوى الوطنية الليبية عقد مؤتمر على هذه المنوال، وخصوصاً أن مؤتمرات أخرى للقبائل الليبية عقدت في كل من الدوحة وأبو ظبي واسطنبول ولم تكن ذات جدوى أو أثر واضح على تطورات الأوضاع إلا من حيث إعلان العديد من زعماء القبائل وقوفهم الى جانب المعارضة ضد سلطة القذافي. لعل أهم الأسباب التي يتحدث عنها الناشط الليبي هو أن «الدعوة إلى أي مؤتمر وطني لا تصح إلّا إذا كانت برعاية المجلس الوطني، وواضحة المعالم والأهداف وبالاتفاق بين القوى الوطنية في الداخل والخارج، وبناءً على لجنة تحضيرية».
أما السبب الثاني، بنظر جعودة، فهو أنه «ثبت لدينا أن هذا المؤتمر ممول من شركة نفطية إيطالية يملك النظام الليبي حصة في أسهمها، وتشارك وزارة الخارجية الإيطالية في تنظيم هذا المؤتمر وتمويله. لذلك قد تكون دعوة فراتيني من الأعمال الارتجالية التي لا يمكن القبول بها».
وفي نظر العديد من القيادات والناشطين الليبيين، كما ينقل جعودة، أن هذا النوع من المؤتمرات يفتح الباب واسعاً لتدخلات خارجية من الدول. ويفتح باب الاجتهادات للدول المعنية بالشأن الليبي، بحيث تختلط مصالح الدول مع مصالح بعض الأفراد. وينصح «كل مشايخ القبائل بألّا ينجرّوا الى اجتماعات خارج وطنهم لأن القبائلية مسألة حساسة في بلدنا. لا نريد أن يستخدم مشايخ وأعيان قبائل في جداول أعمال دول لا ندري عنها شيئاً. هذه الدول ليست جمعيات خيرية، هذه دول لها مصالحها في العمل السياسي ولا يوجد لديها نوايا طيبة». ويتساءل جعودة «لماذا يتكبد هؤلاء مصاريف؟ هي مجرد محاولة من الإيطاليين للدخول على الخط من أجل اثبات وجودهم إلى جانب القوى الأخرى».
أما المتحدث باسم المجلس المحلي لمدينة سرت التابع للمجلس الانتقالي، أبو بكر الفرجاني، فيرى من جهته، أن إلغاء المؤتمر أمر طبيعي لأنه لم يأت بالتنسيق أو بدعوة من المجلس الوطني. ويشير لـ«الأخبار» إلى أن إيطاليا تهدف من خلال عقد هذا المؤتمر التوصل الى إجماع ليبي على ضرورة وقف إطلاق النار «لدواع إنسانية»، فيما ترفض المعارضة وقف النار قبل إسقاط النظام في طرابلس.
ربما كانت دعوة فراتيني الى هذا «الاجتماع الموسّع» تؤسس لسياسة دولية جديدة من شأنها الالتفاف على القوى الشرعية التي باتت تمثل الشعب الليبي بعد ثورة 17 شباط، بما يشبه سياسة الولايات المتحدة في أفغانستان وتطويع مجلس القبائل الموسع المُسمّى «لويا جيرغا» لخدمة أهداف السياسات الدولية، بتكوين نظام على قياس تطلعات هذه الدول.
و«اللويا جيرغا»، عبارة بشتونية تعني «مجلس المصالحة الموسع»، حيث يجتمع رؤساء القبائل ووجهاؤها السياسيون والدينيون وسواهم للتشاور في حل مشاكلهم المتعلقة بشؤونهم السياسية والعامة، وتقليدياً كان يستمر اجتماعهم إلى حين التوصل إلى قرار يتخذونه بالتفاهم والإجماع، من دون تصويت رسمي.
هكذا يمكن روما، ومن وراءها من الدول التي تشارك في رسم صورة ليبيا المقبلة، أن تلعب لعبة القبائل لتطويق مساعي المجلس الانتقالي والقوى الوطنية الأخرى المعارضة لنظام القذافي. فكما أُقر الدستور الأفغاني في «اللويا جيرغا» التي عقدت في كابول في أوائل 2004، ممهدة الطريق أمام أول انتخابات رئاسية في البلاد في العام نفسه، والتي جاءت بحامد قرضاي رئيساً، قد تكون الخطة المقبلة لليبيا مشابهة لما جرى في أفغانستان بحيث يصار إلى إرضاء زعماء القبائل الذين يشكّلون ثقلاً في المشهد السياسي والديموغرافي في الهضبة الأفريقية، وذلك على حساب الأحزاب والتجمعات السياسية الحديثة.
لكن الواقع الليبي الذي يشهد الآن مرحلة تأسيس قوى جديدة للمجتمع المدني، يكشف أن نفوذ القبيلة تضاءل كثيراً. فرغم أن النظام لعب ورقة القبائل في أكثر من محطة من محطات حكم القذافي على مدى العقود السالفة، كان لثورة أيلول عام 1969 ايجابياتها في هذا الإطار (على الأقل في العقد الأول من عمرها)، إذ أعطت لتشكيلات اللجان الثورية واللجان الشعبية دوراً على حساب التوزيع القبائلي. وللتذكير، فقد تعهد القذافي ومجموعته من «الضباط الوحدويين الأحرار» بالقضاء على النزعة القبائلية فور وصولهم الى مقاليد الحكم عام 1969.
لكن هذه السياسة لم تدم طويلاً، فبعد أقل من عشر سنوات من عمر الثورة عاد القذافي ليحتمي بالقبائل في معركته لإثبات نفسه في الحكم وتحويل السلطة من سلطة مؤسساتية الى سلطة شخصانية. لقد خالف القذافي عهده وعهد رفاقه «الضباط الأحرار» بعد أقل من عقد على انتصار ثورته، حين بدأ باستبعاد قيادات مهمة من حوله وترسيخ نفسه قائداً للجماهيرية تمهيداً لأن يصبح «ملك ملوك أفريقيا» و«إمام المسلمين». لذلك ظهرت الصراعات القبائلية بنحو سافر في القوات المسلحة، حيث كانت القبائل الكبرى ممثلة في الجيش.
ومنذ أواخر السبعينيات من القرن الماضي، تغلغلت القبائلية بقوة في جسم الدولة، فدخلت الى المؤتمرات الشعبية واللجان الشعبية واللجان الثورية والأمنية. ووجد الليبيون في ظل نظام أمني صارم، أن القبيلة هي الملاذ الوحيد للحصول على الحماية والامتيازات والحقوق.
ولعل ما يؤكد دور القبائل بما هي وقود في لعبة السلطة، ما جاء على لسان نجل العقيد القذافي، سيف الإسلام، بعيد اندلاع ثورة شباط الماضي، حين حذّر من عواقب دخول بلاده في دوامة حرب أهلية إذا استمرت الاحتجاجات على النظام، بالقول إن «القبائل ستتقاتل في ما بينها في الشوارع».
وترتبط أسماء القبائل الليبية بما قدمته من شهداء في حروب ليبيا ضد الاستعمارين التركي والإيطالي، حسبما يقول الباحث عبد الستار حتيتة، الذي يعتقد أن ليبيا فيها نحو 140 قبيلة ومجموعات عائلية لها امتدادات جغرافية عبر الحدود. لكن الباحث الليبي، فرج عبد العزيز نجم، يرى أن القبائل الكبيرة لا يتجاوز عددها الـ30 قبيلة في ليبيا.
وشكلت قبيلة القذافي (القذاذفه) مع قبيلة المقارحة وأولاد سليمان في المناطق الغربية، حلفاً في وجه القبائل الأخرى. وقبيلة القذافي قبيلة قريبة من قبيلة الورفله، التي يعتقد أن تعدادها يبلغ قرابة مليون نسمة. أما المقارحة الذين يتمركزون في سبها، فقد شغل ابنهم، عبد السلام جلود، موقع الرجل الثاني في ليبيا بعد القذافي لسنوات طويلة بعد ثورة 1969.
ولا تزال قيادة المقارحة من المؤيدين للنظام لأنها تعتقد أن القذافي جهد لاستعادة ابنها، عبد الباسط، من سجنه في اسكتلندا، بعدما أدين بتفجير طائرة لوكربي. لكن اللافت أن الاحتجاجات الأخيرة على سياسة القذافي جذبت عدداً من أبناء المقارحة، وخصوصاً في المدن الواقعة شرقي العاصمة طرابلس وجنوبها.
وفي المقابل، ترتبط قبيلة الورفله بعلاقات قوية مع قبيلة الزنتان (من بلدة زنتان)، التي تبعد نحو 120 كيلومتراً الى الجنوب من طرابلس، وهي أولى المدن في غرب ليبيا التي تلتحق بالثورة ضد القذافي. وهذا لا ينفي أن بعض أبناء قبائل القذاذفة والأورفلة وأولاد سليمان والمقارحة هم مع الثوار ضد القذافي. وقبائل زوية وورفلة والمقارحة تتركز في منطقة فزان ومناطق جنوب وشرق وغرب طرابلس، تأتي بعدها قبيلة مسلاتة، ثم بعض قبائل طرابلس الذين تنتمي غالبيتهم إلى قبائل مصراتة.
أما «قبائل مصراتة»، المدينة المحاصرة من كتائب القذافي منذ أكثر من شهرين، فهناك ما يعرف بـ«الأهالي» وأولاد المحجوب، وأولاد بعيو وزمورة، والكوافي، والدبابسة والزواوية والصوالح والجرشة.
وفي المقابل، تقف معظم القبائل الليبية الأخرى، وخصوصاً في الشرق وفي الجبل الغربي وجبل نفوسة، إلى جانب قيادة المجلس الوطني الانتقالي، حسبما يذكر الفرجاني ابن مدينة سرت. وقبيلة الفرجان تتمركز في ترهونة وسرت وزليتن وطرابلس (غرب) وهي من القبائل التي ساندت الثوار.
أما أقوى قبيلة ليبية فهي «العواقير»، التي يمتد انتشارها من بنغازي حتى الحدود المصرية ـــــ الليبية في الشرق. ويتكثف تواجد «العواقير» في منطقة البطنان وباقي منطقة برقة. وعُرف عن رجالها وقوفهم في وجه الاستعمار الإيطالي والسلطة العثمانية.
وكان لعدد من أبناء العواقير حضور لافت في المواقع السياسية أيام النظام الملكي السابق وخلال فترة حكم القذافي. تولى بعض منهم مواقع قيادية في الدولة، منها مواقع وزارية. وكان الشيخ عبد الحميد العيار، (أحد زعماء هذه القبيلة) رئيساً لمجلس الشيوخ في عهد الملك محمد بن ادريس السنوسي. أما ابن «العواقير» عبد الونيس العيار، فقد اتهم بتدبير انقلاب عسكري ضد الملك.
ومن أشهر القبائل في منطقة برقة التي تضم غالبية مدن الشرق، هناك الكراغلة والتواجير والرملة. وفي طبرق وما حولها وحتى نواحي منطقة بنينة، وبالقرب من بنغازي، تنتشر قبائل أخرى منها العبيدات، التي تتكون من نحو 15 عشيرة، وتعد من أقوى قبائل برقة. أما قبيلة المجابرة، فتتركز في مناطق جنوب غرب طرابلس قرب منطقة الجبل الغربي، لكن عدداً من مشايخ هذه القبيلة يقيم في بنغازي كالعشيرة التي ينتمي إليها وزير الدفاع أبو بكر يونس جابر.
من الواضح أن تقسيم القبائل الليبية بحسب المساحة الجغرافية قد تشوبه بعض التعقيدات، بحيث يتداخل انتشار بعض القبائل المهمة بين شرق وغرب وجنوب، ما يؤكد أن الولاء السياسي لا يستقيم وفق التقسيم القبائلي بنحو تام، إذ تبقى هناك بعض الجيوب التي تحتضن أبناء قبائل موالية للسلطة في مناطق المعارضة وبالعكس. وقد تؤدي المصالح الاقتصادية والضغوط الأمنية دوراً في تحويل موقف زعماء هذه القبيلة أو تلك لهذا الطرف او ذاك حسب طبيعة إقامة الجزء الأكبر من أبنائها. لكن في أي حال لا يمكن «لويا جيرغا» على الطريقة الليبية أن ينجح بحكم وجود تعقيدات جغرافية وبسبب عدم توافر إرادة سياسية لدى المعارضين لجعل القبائل بديلاً عن المؤسسات السياسية التي تضم كافة أبناء الشعب الليبي.



جعودة: لا للصفقات السريّة

يرى المعارض الليبي صالح جعودة أن المجلس الوطني الانتقالي له مهمة انتقالية واضحة ولا يمكنه اتخاذ خطوات منفردة بعيداً عن التنسيق والاتفاق مع القوى الوطنية الليبية المعارضة لنظام العقيد معمر القذافي.
من هنا ينتقد جعودة ما تسرب من أنباء عن مفاوضات تقوم بها أطراف من المعارضة مع السلطة الليبية في بعض العواصم. ويشير الى أن بعض المفاوضات وصلت الى الاتفاق على أن يبقى القذافي في ليبيا، ويقيم في مزرعة يملكها داخل قرية تقع جنوب غرب البلاد. ويكشف جعودة ان هذه المزرعة هي المكان الذي يخبئ فيه القذافي الثروات التي نهبها من الشعب الليبي من أموال وسبائك ذهبية.
ويحذّر المعارض المقيم في واشنطن من أن أي اتفاق بين شخصيات في المعارضة وسلطة القذافي وأسرته قد يسبب مشاكل في داخل الصف الواحد، لأن معظم قوى المعارضة ترفض أن تحل الأمور بصفقات سرية «لأن هذه الصفقات تتعلق بمصير شعب».